الوقت- أصدر المتحدث الجديد باسم كتائب عز الدين القسام بيانًا مفصليًا حمل أبعادًا سياسية وتنظيمية وإعلامية متشابكة، لم يقتصر فيه على توصيف المواجهة الجارية أو توجيه رسائل آنية، بل أعلن رسميًا أسماء عدد من القادة الشهداء الذين ارتقوا خلال المواجهة الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي، واضعًا هذا الإعلان في إطار أوسع يتصل بمعنى التضحية، ودور القيادة، ومسؤولية المجتمع في حماية ما تحقق بدماء أبنائه.
البيان جاء في لحظة شديدة الحساسية، حيث يعيش قطاع غزة واحدة من أقسى مراحله على المستويين الإنساني والمادي، في ظل دمار واسع، ونزوح داخلي، وخسائر بشرية كبيرة، ومع ذلك، اختار الخطاب أن ينطلق من تثبيت الوقائع التنظيمية والسياسية، لا من لغة الانفعال، في محاولة لإعادة ترتيب المشهد من زاوية المقاومة.
إعلان أسماء القادة الشهداء: خطوة مقصودة لا تفصيلًا عابرًا
أعلن البيان استشهاد عدد من القادة البارزين في كتائب القسام، وهم:
حذيفة سمير عبد الله الكحلوت المعروف باسم أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم الكتائب، والذي شكّل خلال سنوات طويلة الصوت الإعلامي الأبرز للمقاومة.
محمد السنوار الملقب أبو إبراهيم، من القيادات العسكرية المركزية في هيكلية القسام.
محمد شبانة المعروف باسم أبو أنس، قائد لواء رفح.
رائد سعد الملقب أبو معاذ، أحد المسؤولين عن ركن التصنيع العسكري.
حكم العيسى المعروف باسم أبو عمر، من القيادات العاملة في مجالات التدريب والدعم القتالي.
إدراج هذه الأسماء بشكل صريح لا يمكن اعتباره مجرد نعي أو توثيق شكلي، بل يحمل دلالة واضحة على رغبة القسام في إدارة لحظة الفقد علنًا، وتثبيت أسماء القادة في الذاكرة الجماعية، بدل تركها عرضة للتكهنات أو الروايات غير الرسمية.
القيادة في خطاب القسام: وظيفة مستمرة لا أشخاص
أحد المحاور المركزية في البيان هو إعادة تعريف مفهوم القيادة. فالخطاب شدد على أن استشهاد القادة، مهما كانت مكانتهم، لا يعني انهيار البنية التنظيمية أو فراغًا قياديًا، بل إن القيادة، وفق هذا الطرح، هي وظيفة تتولاها منظومة كاملة، تشكلت عبر تراكم التجربة، لا عبر فرد بعينه.
بهذا المعنى، لا يُقدَّم القادة الشهداء كأبطال منفصلين عن سياقهم، بل كنتاج طبيعي لبيئة اجتماعية وسياسية فرضت المقاومة كخيار، وهو طرح يهدف إلى قطع الطريق على أي قراءة ترى في استهداف القادة نهاية للقدرة التنظيمية أو العسكرية.
أبو عبيدة: من متحدث إلى رمز سردي
يحظى اسم أبو عبيدة بحضور خاص داخل البيان، ليس فقط بسبب موقعه كناطق عسكري، بل بسبب ما راكمه حضوره من رمزية خلال سنوات، فقد تحوّل صوته وخطابه إلى جزء من الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، وارتبط اسمه بلحظات مفصلية في الصراع مع الكيان الإسرائيلي.
إدراج اسمه ضمن قائمة القادة الشهداء يعكس مقاربة ترى أن الرموز لا تُختزل بأجسادها، وأن الخطاب الذي حمله أبو عبيدة سيبقى حاضرًا، حتى مع غياب الشخص، وهي رسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى الجمهور الداخلي، لتأكيد أن الاستمرارية لا تتوقف عند الأسماء.
غزة في البيان: المجتمع بوصفه الحاضنة والحارس
وصف البيان أهالي غزة بأنهم «رمز الصمود والاستقامة»، وهو توصيف يتكرر في الخطاب المقاوم، لكنه هنا يأتي مرتبطًا مباشرة باستشهاد القادة، فالقادة، وفق البيان، هم أبناء هذا المجتمع، نشؤوا في ظروفه القاسية، وحملوا خياراته، ودفعوا الثمن ذاته الذي يدفعه المدنيون.
بهذا الربط، يسعى الخطاب إلى تثبيت معادلة تقول إن المجتمع لا يكتفي بتقديم الشهداء، بل يتحمّل أيضًا مسؤولية حراسة نتائج تضحياتهم، سواء عبر الصمود، أو عبر الحفاظ على التماسك الداخلي، أو عبر رفض المسارات التي تتجاوز هذه التضحيات.
تحذير سياسي في سياق دموي
لم يخلُ البيان من بعده السياسي الصريح، إذ وجّه تحذيرًا واضحًا لكل من يتورط في التعاون أو التطبيع أو التواطؤ مع الكيان الإسرائيلي، معتبرًا أن هذه المسارات تتناقض جوهريًا مع ما قُدّم من تضحيات، وأن نتائجها كانت، تاريخيًا، على حساب القضية الفلسطينية.
وضع هذا التحذير بعد الإعلان عن أسماء القادة الشهداء يمنحه وزنًا إضافيًا، إذ يُفهم على أنه رسم لخط أحمر سياسي وأخلاقي، لا يمكن تجاوزه دون المساس بجوهر الصراع.
الخسارة، بلا انهيار
أقرّ البيان، ضمنيًا، بحجم الخسارة التي يمثّلها استشهاد القادة، لكنه رفض تحويلها إلى مدخل للهزيمة النفسية. فالخطاب شدد على أن المقاومة، كما واجهت مرحلة المواجهة، ستواجه أيضًا مرحلة ما بعدها، بما تحمله من تحديات إعادة إعمار، وترميم جراح، وإعادة تنظيم الحياة اليومية في غزة.
ويربط البيان بين هذه المرحلة وبين التضحيات، معتبرًا أن إعادة البناء ليست مجرد مسألة إنسانية، بل فعل سياسي وأخلاقي يعكس الوفاء لمن رحلوا.
الامتداد الإقليمي والدولي
تضمّن البيان إشارات تقدير للدعم الإقليمي والشعبي الذي تلقاه الفلسطينيون، سواء عبر مواقف سياسية أو تحركات شعبية أو حملات تضامن دولية، ويعكس هذا البعد إدراكًا لأهمية المعركة الإعلامية والرأي العام العالمي في موازاة المواجهة العسكرية.
يمكن قراءة بيان القسام بوصفه نصًا مركّبًا، يجمع بين التوثيق والتنظير وإدارة الذاكرة، إعلان أسماء القادة الشهداء ليس تفصيلًا شكليًا، بل جزء من بناء سردية تقول إن الأشخاص يرحلون، لكن المسار الذي ساهموا في صناعته لا يتوقف.
في ظل استمرار الصراع مع الكيان الإسرائيلي، يسعى البيان إلى إعادة تعريف الخسارة، لا كدليل ضعف، بل كعنصر داخل معادلة طويلة الأمد، يكون فيها الشعب هو الحارس النهائي لما أنجزه الشهداء، بالثبات، وبالذاكرة، وبالقدرة على الاستمرار رغم كل شيء.
