الوقت – في حين تمضي فصائل المقاومة، بمعيّة القوى الوطنية المتحالفة معها، في مشاوراتها عقب انتصارها الساحق في الانتخابات البرلمانية العراقية، ساعيةً إلى اختيار رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، ليجري المسار السياسي للبلاد بانسيابية خالية من التحديات، تتكالب بعض القوى السياسية، بتحريضٍ بيّنٍ من واشنطن، لتأجيج الساحة السياسية وإشعال فتيل الفوضى في مرحلة ما بعد الانتخابات.
هذه القوى، التي لا تبرز إلا في مواطن الأزمات والمنعطفات الحرجة، تسعى جاهدةً لتكدير صفو الشعب العراقي، وتنغيص فرحته بالمشاركة الواسعة في الانتخابات الأخيرة، إذ عادت في الأيام الماضية لتُطلق دعواتٍ مشبوهةً مطالبةً بنزع سلاح المقاومة عبر تصريحاتٍ صدرت عن بعض الشخصيات السياسية العراقية.
وفي هذا السياق، زعم فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، يوم السبت، أن فصائل المقاومة قد أبدت تجاوباً مع مقترحه بشأن التعاون في قضية نزع السلاح، بيد أن هذه المزاعم لم تلبث أن واجهت رفضاً صارماً من قبل قوى المقاومة، التي نفت أي نوعٍ من المصالحة أو الاتفاق في هذا الشأن نفياً باتاً، وأكدت تمسكها بموقفها الصلب.
وقد صرّح عبد القادر الكربلائي، نائب القائد العسكري لحركة النجباء، بأن هذه الفصائل المسلحة ستظل ثابتةً على نهجها في مقاومة القوات الأمريكية بكل السبل والوسائل المتاحة، مؤكداً أن وجود هذه القوات على أرض العراق يُعدّ انتهاكاً فاضحاً لسيادة البلاد، وانتهاكاً صارخاً لاستقلالها الوطني.
وأضاف في بيانٍ رسمي إن استمرار الوجود الأمريكي، رغم المطالبات الشعبية والرسمية الداعية إلى رحيله، يمثّل تدخلاً مباشراً في الشؤون الداخلية للعراق، مشدداً على أن الاحتلال يشكّل مسوغاً شرعياً لاستمرار المقاومة، وهو حقٌ أصيلٌ لكل شعبٍ يرزح تحت وطأة الاحتلال، مستنداً في موقفه إلى إرادة الشعب العراقي الحرة وكرامته الوطنية التي لا تقبل المساومة.
وفي سياق متصل، أصدرت كتائب حزب الله العراق بياناً رسمياً أعلنت فيه رفضها القاطع لفكرة نزع السلاح، مؤكدةً أن تحقيق السيادة الوطنية الكاملة والأمن المستدام يُعدّ شرطاً أساسياً لأي حديثٍ يُثار في هذا الشأن. وجاء في البيان أن المقاومة حقٌ مشروعٌ لا يقبل الجدل، وأن السلاح سيبقى في أيدي المجاهدين حتى خروج آخر جنديٍ أجنبيٍ من أراضي العراق، سواء كان من قوات الناتو أو الجيش التركي. وأضاف البيان أن أيّ شخصٍ يتخذ قراراً بتسليم سلاحه قبل استكمال السيادة التامة للعراق، فإنما يتخذ قراراً فردياً لا يمثّل المقاومة ولا يعبّر عن إرادتها الجامعة.
وفي تصريحٍ سابق، قال قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق: “إننا نؤمن بشعار حصر السلاح بيد الدولة، لأننا جزءٌ أصيلٌ من هذه الدولة، ومشاركون في بنائها”.
مشروع نزع سلاح المقاومة وضغوط واشنطن
إن مشروع نزع سلاح المقاومة العراقية ليس إلا وهماً تسعى الولايات المتحدة جاهدةً إلى تحقيقه منذ سنوات، غير أن هذه الجهود قد تضاعفت عقب الانتخابات الأخيرة التي شهدت صعود القوى المقربة من فصائل المقاومة وحصولها على أغلبية المقاعد في البرلمان العراقي.
وحسب ما أفاد به مسؤولون عراقيون، فإن واشنطن قد طالبت الحكومة العراقية، عقب الانتخابات البرلمانية في نوفمبر، بالعمل على تفكيك ستّ فصائل مسلحة، مشترطةً عدم مشاركة هذه الفصائل في الحكومة الجديدة، ولا سيما بعد نجاحها في الاستحواذ على عددٍ كبيرٍ من المقاعد البرلمانية.
وتبدو الولايات المتحدة، عبر اعتمادها على القوى السياسية الموالية لها داخل العراق، تسعی لإزالة العقبات الرئيسية التي تعترض سبيل تحقيق مصالحها، إلا أن فصائل المقاومة، التي تمثل الدعامة الأساسية للهياكل الدفاعية للبلاد، ما فتئت تتصدى لهذه المخططات، ولم تسمح لها بأن تُفضي إلى زعزعة أمن العراق واستقراره.
ومع استمرار الضغوط الأمريكية لنزع سلاح المقاومة، يبقى الدور المحوري الذي تضطلع به هذه الفصائل في تأمين البلاد شاهداً على أهميتها، فقد أثبتت المقاومة خلال العقد الماضي أنها الحصن المنيع الذي يحمي العراق من التهديدات الداخلية والخارجية، ففي زمن اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي لأجزاء واسعة من البلاد، كانت هذه الفصائل هي القوة التي تصدت له ببسالةٍ وإقدام، حتى أعادت للعراق أمنه واستقراره.
وبعد دحر "داعش"، واصلت هذه الفصائل مواجهة التهديدات التكفيرية دون انتظارٍ لأي مقابل، سوى أداء الواجب الوطني المقدس في حماية البلاد وشعبها، ولا يزال هذا الدور مستمراً حتى يومنا هذا، إذ تشهد الساحة عمليات يومية تقوم بها قوات الحشد الشعبي لتفكيك شبكات "داعش" الإرهابية في مختلف أنحاء البلاد، مستعيدةً الأمن في ربوع العراق.
أما في أزمة استفتاء استقلال إقليم كردستان في سبتمبر 2017، فقد كانت فصائل المقاومة حاضرةً بقوة، حيث تمركزت على حدود الإقليم لتمنع أي محاولةٍ لتقسيم العراق، لتثبت أنها الحارس الأمين لوحدة البلاد.
وفي الساحة السياسية، أثبتت فصائل المقاومة أنها ليست مجرد قوةٍ أمنية، بل هي أيضاً ركيزة أساسية لتحقيق الوحدة الوطنية، إذ رغم حصولها على أكبر عددٍ من المقاعد البرلمانية في الدورات الثلاث الأخيرة، التزمت بمسار التوافق الوطني، وسعت إلى حماية البلاد من الأزمات السياسية التي خططت لها واشنطن، لتمنع بذلك انزلاق العراق نحو الفوضى.
إن الانتصار الباهر الذي حققته فصائل المقاومة في الانتخابات الأخيرة، والثقة التي جددها الشعب بها، يؤكدان أنها تسير في الطريق القويم، سواء في ميدان الأمن أم في ساحة السياسة، ومن الواضح أن الشعب العراقي يدرك أن وجود المقاومة ضرورةٌ ملحةٌ لا غنى عنها لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
في المقابل، تحاول الولايات المتحدة جاهدةً أن تُروّج لقوى المقاومة العراقية باعتبارها السبب الرئيس لاضطراب الأمن وتقويض الاستقرار في البلاد، غير أن شواهد الواقع تشهد شهادة الحق بأن واشنطن ذاتها هي اليد التي أطلقت شرر الفوضى وأوقدت نار الخراب في العراق على مدى عقدين من الزمن، ولئن كانت الشعارات الأمريكية تتغنى بتحقيق السلم وبناء الدول، فإن سياساتها، بما فيها من مكرٍ وخداع، لا تزال تقود العراق من هاوية إلى أخرى، وتغرقه في أتون أزماتٍ أمنية وسياسية عميقة.
فمن دعمها السافر لجماعات الإرهاب والتكفير، وعلى رأسها تنظيم "داعش"، إلى استهدافها المتعمد لمواقع المقاومة العراقية، لا تزال واشنطن تسير على دربٍ واحد: إضعاف هذا التيار الوطني وإقصاؤه من معادلات القوة، بغية تحويل العراق إلى دولةٍ رخوةٍ تتهاوى تحت وطأة هيمنتها، تدرك الإدارة الأمريكية تمام الإدراك أن وجود المقاومة، بثباتها الراسخ وجذورها العميقة، هو الحائل الأكبر بين العراق وبين أطماعها المضمرة، فما دامت هذه القوى الحارسة تقف سدّاً منيعاً، فإن مشاريع الهيمنة ستظل سراباً بعيد المنال.
واليوم، وقد اشتدّ عود المقاومة، وتعاظم نفوذها في البنيتين الأمنية والسياسية، ها هي واشنطن تستجمع قواها، مستنفرةً أدواتها في الداخل والخارج، لتعيد الكرة وتجرّب حظها البائس مرةً أخرى، متوهمةً أن بإمكانها الالتفاف على إرادة شعبٍ أدرك أن بقاءه مرهونٌ ببقاء المقاومة وصمودها.
"داعش" وأمريكا: وجهان لعملة التهديد
تتفق قوى المقاومة العراقية، التي أثبتت على مرّ السنين أنها الحارس الأمين لسيادة الوطن وأمنه، على أن سلاحها لن يوضع أرضاً ما دامت التهديدات الخارجية تخيّم على سماء العراق، ففي وقتٍ عادت فيه خلايا داعش الإرهابية لتنشط من جديد في ربوع سوريا والعراق، متربصةً بأمن الحدود ومستهدفةً سلامة الشعب، تبقى المقاومة على أهبة الاستعداد، مترقبةً أي تحركٍ مشبوهٍ من هذه الجماعات التكفيرية لتقف لها بالمرصاد، دفاعاً عن الأرض والعِرض، وحمايةً لوحدة البلاد وسلامتها.
ولذا، كما أكدت كتائب حزب الله وحركة النجباء في بياناتهما الأخيرة، فإن الحديث عن تسليم السلاح في ظل هذه الظروف هو أمرٌ لا يمكن تصوره، فلا يمكن لعاقلٍ أن يطلب من حارس البيت أن يلقي سلاحه بينما اللصوص لا يزالون يجوبون أطراف الدار.
أما الخطر الآخر الذي يدفع المقاومة إلى التمسك بسلاحها، فهو استمرار وجود القوات الأمريكية على الأرض العراقية، وهو وجودٌ تصفه قوى المقاومة بأنه انتهاكٌ صارخٌ للسيادة الوطنية واستقلال القرار العراقي، وترى هذه القوى أن خروج القوات الأجنبية، وعلى رأسها القوات الأمريكية، هو المدخل الرئيس لاستعادة الاستقرار والسكينة في البلاد، وأن أي حديثٍ عن نزع السلاح قبل تحقيق هذا الهدف ما هو إلا عبثٌ لا قيمة له.
وقد صرّحت حركة النجباء بعباراتٍ لا لبس فيها أن أي ضغطٍ أو تهديدٍ لن يُثنيها عن مسارها المقاوم، وأنها ماضيةٌ في خيار المواجهة حتى رحيل آخر جنديٍ أجنبي من تراب العراق، وأكدت النجباء، ومعها كتائب حزب الله، أن الحديث عن حصر السلاح بيد الدولة لا يمكن أن يتحقق إلا بعد انسحاب قوات الناتو والجيش التركي من الأراضي العراقية، وهو شرطٌ لا يزال بعيد المنال.
ففي غياب المقاومة، سيبقى العراق مكشوفاً أمام التهديدات الخارجية، ما قد يهدّد المنجزات التي حققتها هذه القوى على مدى عقدٍ كامل، في سبيل ترسيخ الأمن وصون الاستقرار، ولهذا، فإن قادة المقاومة يدركون أن التفريط في السلاح الآن هو تفريطٌ في كرامة الوطن وأمان شعبه، وخاصةً في وقتٍ تتربص فيه قوى الشر، بقيادة المشروع الصهيوني المدعوم أمريكياً، بأمن المنطقة واستقرارها.
ازدواجية المعايير وأطماع السلاح الكردي
وفي الوقت الذي تصر فيه واشنطن على نزع سلاح المقاومة العراقية، تغضّ الطرف عن سلاح قوات البيشمركة في إقليم كردستان، التي ظلت تحتفظ بترسانتها العسكرية بشكلٍ مستقل على مدى أكثر من عقدين، ورغم أن الدستور العراقي أقرّ بشرعية تسليح البيشمركة، إلا أن هذه القوات عملياً تعمل خارج نطاق السيطرة المباشرة للحكومة المركزية، ما يجعلها في نظر المقاومة جزءاً من المعضلة الأمنية التي يجب معالجتها.
وترى قوى المقاومة أن تطبيق مبدأ “حصر السلاح بيد الدولة” يجب أن يكون شاملاً، بحيث لا يستثني أي طرف، وإلا فإن الحديث عن نزع السلاح من المقاومة وحدها هو ضربٌ من الكيل بمكيالين.
وقد أوضحت كتائب حزب الله في بيانٍ لها أن من أبرز أسباب تمسكها بالسلاح هو وجود مثل هذه التهديدات الداخلية، مشيرةً إلى أن حماية أمن الشعب ومقدساته من خطر الجماعات التابعة للجولاني ومن تهديدات قوات البيشمركة تبقى أولويةً لا تقبل التأجيل.
ولئن كان تسليح البيشمركة قد جرى في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق بهدف منع الانهيار في الإقليم، فإن هذا الوضع القانوني يمكن مراجعته وإصلاحه بما يتماشى مع مقتضيات السيادة الوطنية، وعلى النقيض، فإن قوات الحشد الشعبي، التي أدمجت في الجيش العراقي بقرارٍ من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي عام 2018، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الأمنية الرسمية، ما يجعلها قوةً شرعيةً معترفاً بها ضمن إطار الدولة.
وترى المقاومة أن سلاح البيشمركة، في ظل غياب المقاومة، قد يتحول إلى تهديدٍ خطير لوحدة البلاد، وخاصةً مع وجود سيناريوهات محتملة لإحياء مشروع انفصال إقليم كردستان، الذي تصدت له المقاومة قبل ثماني سنوات بحكمةٍ واقتدار.
ورغم ذلك، فإن الولايات المتحدة تمارس سياسةً مزدوجةً في تعاملها مع ملف نزع السلاح، حيث تسعى لتقويض المقاومة العراقية، بينما تعمل على تعزيز نفوذها في إقليم كردستان، من خلال توسيع قواعدها العسكرية هناك، وافتتاح أكبر قنصليةٍ لها في أربيل، في خطوةٍ تعكس بوضوح نواياها الخبيثة في زعزعة استقرار العراق وتقويض أمنه.
وعلاوةً على ذلك، تشير تقارير إلى وجود اتفاقٍ سري بين أربيل وأنقرة لنشر قواتٍ تركية في شمال الإقليم، في انتهاكٍ صريح للدستور العراقي، الذي يمنح الحكومة المركزية وحدها صلاحية إبرام مثل هذه الاتفاقيات.
هذه التحركات تكشف عن طموحات قادة الإقليم، المدعومين من واشنطن، لتعزيز نفوذهم وخلق أوراق ضغط على الحكومة المركزية، مما قد يؤدي إلى تهديد التوازن الداخلي في العراق وتقويض أمنه الوطني.
لقد أثبتت التجربة أن السياسات الأمريكية، بدلاً من أن تكون حلاً للأزمات العراقية، كانت دائماً وقوداً لها، واليوم، كما في الأمس، تقف قوى المقاومة كالصخرة الصلبة في وجه هذه المخططات، عازمةً على ألا تسمح لواشنطن وأعوانها بأن يعبثوا بأمن العراق وسيادته.
إن محاولات أمريكا لنزع سلاح المقاومة، في ظل ما حققته هذه القوى من نفوذٍ سياسيٍ وشعبيٍ متزايد، مصيرها الفشل المحتوم، فما المقاومة إلا شجرةٌ تضرب بجذورها عميقاً في أرض العراق، وكلما ازدادت الرياح عنفاً، ازداد ثباتها وصلابتها، لتظل عصيةً على الاقتلاع، وشوكةً في حلق الطامعين.
