الوقت ـ عاصفة الحدود الغربية , تهب على الجزيرة العائمة على شواطئ البحر الكاريبي , لا تشبه رياح هذه العاصفة مثيلاتها الساخنة التي حملت لكوبا حصارا وعقوبات اقتصادية وعزلة وقطيعة , عقابا ًعلى موقف أرادت فيه رفع رأسها, فيما سبق من الأيام ..
تستعد الجزيرة الكوبية التي أمضت نصف قرن من الزمن , لاستقبال متغيرات سياسية استراتيجية , ستضع هذا البلد الذي عاش خمسين سنة من المعاناة , والفقر الذي رسم اثاره تجاعيدا على وجوه الكوبيين السمراء وأغان ثورية تحكي ظلم الجار وسطوته , وشعارات تناهض المستكبر الامريكي على جدران منازل متواضعة وشوراع احياء شعبية في سانتا كلارا وهافانا وما بينهما.
كوبا مدرسة في مقارعة الاستكبار, وقصة حصار أمريكي مرير , فرض على الشعب الكوبي العيش نصف قرن بحياة زهيدة , حاولت فيها امريكا تضييق الخناق على شعب في جزيرة صغيرة , عبر اقفال حدوده ليضيق الافق امامه, فقهرها !!! فقهرها الشعب الاسمر المتواضع ببسمته التي لا تفارق وجوه شعبه , ورقصه الخفيف, وارادته الصلبة وراثة حلفه( حيلفه ) السوفياتي , وايمانه الكبير بقادته, فصنعت جزيرته جنة الكرامة, ورحبت الارض بأهل كوبا الثائرين , وعاشوا حياة ان بحث عنها ستجدها أجمل وأطهر وأبسط من عيش الأثرياء في شوارع مانهاتن وقلب نيويورك..
اعتاد الكوبيون على حياتهم اليومية التي تأصلت في سلوكهم الاجتماعي , فكل مساء شعب السالسا, بقبعة ثورية تراثية وسيجار كوبي فاخر, يحلو له الرقص على شواطئ الكاريبي على أنغام الحان الألم والقهر والمعاناة , يحسنون التكيف مع وضع اقتصادي ونمط عيش يفرض عليهم بقسوته رغدا وزهدا ويذيقهم طعم الفقر الذي تجد اماراته خلف كل طفل متسخ الوجنات على الطريق , وعلى جدران البيوت المتواضعة البسيطة واسقفها الحديدية الرقيقة, والسيارات القديمة بل النادرة التراثية .. كل ما في كوبا ثورة وحكاية .. شوراع كوبا التي تحكي قصص ثورة أشبعت شعبها ثقافة الحياة العزيزة والكرامة , حتى صار وان كانت البطون خاوية يرقصون ويضحكون وينامون وفي أحلامهم صور التشي وكاسترو والبسمة التي تخفي ملايين الدموع إن أتاحوا لها الخروج من حبس الجفون العزيزة الكريمة المتكبرة على الطغاة..
هي كوبا البلد الذي يكاد لا تجد فيه صغيرا أو كبيراً, الا وحكى لك تاريخ الصراع مع امريكا وسرد لك واسهب قصص الثورة والثوار , وما ان أتى على ذكر اسم ذاك الثائر الكبير تشي غيفارا حتى تدمع عيناه بحرارة.. إنه التشي الاسطورة الثورية الكوبية .. التشي كما ينادونه في كوبا , ذاك الشاب الطبيب المثقف والكاتب الأرجنتيني الأصل الذي أصبح وسيجاره رمز كوبا العزيزة , وعاش الحاضر والماضي الكوبي ورحل شهيدا برصاص امريكي , فماتت امريكا وبقي هو التشي يلف العالم بقصص ( بقصصه ) التي أحبها الناس وحياته المتواضعة التي أدخلته الى القلوب كجريان الماء بين الصخور ..
تكاد لا تغفو عينا التشي هذه الأيام , ويخفق قلب الفيديل المخلص كاسترو نبضات قلق سريعة .. كيف لا ؟؟ وسفينة امريكية لطالما قارعها غيفارا وكاسترو وأبعداها عن شواطئ كوبا , تتوجه مع ريح غريبة الى الشواطئ الزرقاء البريئة..
فيديل كاسترو , تشي غيفارا , عظماء كوبا الثورة.. الحق معكم , لا تناموا !!!
هي تلك السفن التي لم تحبوها, هي السفن التي كرهتم أن تسمعوا بالبلاد التي تأتي منها.. هي أمريكا وبلاد البراغماتية بحدها الأقصى , وابتساماتها المسمومة, وهداياها المفخخة , تطل من اخر أفق البحر الغربي..
تطل الولايات المتحدة الامريكية اليوم, على الشواطئ الكوبية برياح توافقية تريد من خلالها محو نصف قرن من الصراع , وبداية صفحة جديدة من العلاقات , كنا قد تحدثنا عنها سابقاً.
ولكن لأن أمريكا تلك الدولة التي صدق فيها القول " البلاد النهمة - الطامعة لا الطامحة - التي تأكل ولا تشبع.."
هي امريكا .. بتاريخ يحكي لك قصصها التي وعتها شعوب الأرض.. باعلامها المزخرف المموه الكاذب, ولسانها الجميل الذي يخفي نواياها القبيحة..
استفاقت امريكا على نصف قرن من الزمن, زمن سطرت فيه الجارة الثائرة كوبا مدرسة من الصبر والتحمل والرسوخ على المبادئ ورفض الترف المتخم في بلاد الجيران . زمن فضلت فيه كوبا الاخلاص لابتسامة ثوارها الاصيلة , على الوقوع في مكر وذل الابتسامة الامريكية المسمومة. هي المدرسة الثورية الكوبية .. التي انتصرت !!
هو الامتحان التاريخي لقطاف ثورة قد أينعت, فهل يحسن الجاني قطف الثمر, وهل يحسن التسويق والتخزين والاستثمار وربما التصدير.. فلاح الثورة يستحق أن يكافأ!!
كوبا .. واستيقاظة امريكا على جزيرة جارة, أقفلت حدودها أمام أطماع الامريكي وقطعت اياديه العابثة وقارعت سياسته الجشعة حتى انهكه العراك, مع زنود سمراء لشعب قد رافق الفقر ودجنه حتى بفقره استغنى !! أليس أقل الناس حاجة أغناهم ؟؟ شعب كوبا هو الأغنى , فلم يأبه لا للسيارات الامريكية الفخمة ولا الى الفاست فود ولا الى هوليوود ولا الى صخب الاندية الليلية على سواحل المقلب الاخر من الكاريبي..
كوبا اليوم, أمام تحد تاريخي حساس جدا, يكاد هذا الاستحقاق الاتي يكون بوزن كل ما بذلته وما عانته وما احرزته في نصف قرن مرير من الصبر والعناد.. هي المفاوضات الامريكية الكوبية وهي السياسة الامريكية بستار الانفتاح ..
هل هي توبة امريكا من ذنب سوء الجيرة والرغبة في الغفران ؟؟ وهل يستغفر شيطان !!
أم أنها استيقاظة من نبيه امريكي, أدرك أن جارته التي أغلقتها سياسة المواجهة الغبية ممن سبقه من الحكومات الامريكية , حالت طيلة هذه الاعوام دون التمكن من الالتفاف لتطويع حديقة جميلة في احضان الخليج الامريكي !!
فأدرك انها اليوم وجبة سمينة استراتيجية تستطيع بلاده أن تلتهمها تحت ستائر الانفتاح والتفاهم السياسي !!
أم أنه قرأ الاحداث التي هملتها ذاكرة السابقين على البيت الأسود مهما بيضت امريكا صورته ولونه , فالتفت الى ان كاسترو الأصيل غاب.. وصور التشي قد شابها بعض من اندثار اللون وسماكة الغبار !!
وتعلم في مدارس السياسة الامريكية أن يؤمن بيقين قاطع , أن ما بعد بعد بعد الثورة , ليس كالثورة وما بعدها !! لا بد أن تكون بعد زمن اسهل وأقل جذرية وألين .. فعرف الماكر الامريكي أن كاسترو الاصيل والتشي مهما قلقا لن تنطق صورهما على طرقات سنتا كلارا وهافانا .. وعرف أن كاسترو الجديد الوارث وكيلا ليس اصيلا رغم الانتماء الذي يعتقده , لكن ليس الأصيل !! لن تكون أنفاسه ونبضاته على نفس تردد الأصيل المؤسس .. حتى وان كانت هكذا , فإن الظروف كفيلة بأن تصنع الفارق .. والظروف والسياسة تتغير !! فها هي السياسة الامريكية " تتغير " فما الذي يدفع بكاسترو كي لا يتغير ؟؟ وان عاند لا بأس بأن تحرجه امريكا امام دول امريكا الجنوبية والعالم وتظهره بمظهر العنيد الذي يذهب بشعبه الى الانتحار !!
هي أمريكا ... ومكرها الذي نخاف على كوبا منه.. فانفتاح اوباما وامريكا اليوم , لا تعني أن الشيطان الساكن مفاصل حكمها وملمهم سياستها تغير وتاب.. هي هي امريكا والشيطان لا يتوب.. ولكن تبدل القناع , فحين لا تستطيع أن تخيفك بقسوتها .. تبتسم لك وتقترب لتبلعك بسلاسة وكياسة !!
كوبا .. مركب الثوار يجب أن لا يغرق..
اليوم, كوبا تحت عصف رياح الانفتاح الامريكي.. وحين نقول امريكا, يجب ان نستحضر كل مفردات ومفاتيح سياستها في العالم , ففي عقيدتها السياسية مفاتيح ثابتة تنطلق من منطق مشوه أن " كل منفعة حق , والغاية تبرر الوسيلة ". ومن هذا الاصل السياسي الكلي , تولد ترجمة عملية على ارض الواقع بفروع متعددة . لسنا نتهم زورا , فأمريكا هي التي نطقت وفعلت : من صياغة اديان الدول بمفردات ومعتقدات تناسب مصالحها , وخلق التوجه السياسي ونظام الحكم في البلاد كما يحلو لها , واسقاط حكومات واختلاق ثورات وشعارات ونشر حريات وثقافات من نتاج مطبخ الفكر الامريكي , وجبات جاهزة أطعمتها لشعوب أجاعتها حكامها التي وضعتها لهم سابقا امريكا نفسها , فأرادت ان تكوي وعي الشعوب وتصنع لها ما يجب أن تفكر فيه تبعا لمصالحها .. وما يجب ان تأكل وتستهلك وتلبس حتى !!!
أمريكا ذاك الشيطان الذي يظهر من افلام هوليوود ودعايات السلع الفاخرة والتسويق الباهر, واللغة المعاصرة والدولار اللامع الساطع , والترف الخيالي الجذاب, والثياب العصرية والطعام السريع الساخن, والرقص على اوتار ثقافات دفينة مصطنعة !!
هي أمريكا بأغنيائها وأثريائها وفقرائها المخدرين, وفسادها وتلوثها ومجونها وفراغ شعبها - المتعمد المقصود - من أي معنى لثقافة أو فكر , وسياسة اغراق شعبها والعالم في لعبة التكنولوجيا الى حد العبودية القاتلة لاي فكر وثقافة , ليصبح الشعب استهلاكيا تستعبده اهواؤه الى اقصى الحدود ويسخر كل اوقاته لجني مال لا بد أن يعود لينفقه, رغما عنه, كما تريد حكومته وجشع وحوش المال الرأسماليين التي تتحكم فيه بسياسات التسويق والاستهلاك والجذب وخلق حاجاته وفق تخطيط مدروس , ليبقى هذا الشعب مواكبا لكل جديد متطور !! .. وما بين جديد وجديد , جديد اخر.. هي فلسفة التسويق وجنى الارباح والأموال على حساب كل شيء..
هي امريكا الرأسمالية والنيو رأسمالية وفلسفة تكديس الثروات, بأسواقها التي لا تشبع , وجشعها وطمعها ومصالحها التي لا حدود لها, واستخباراتها التي تنهش علوم وحضارات وثقافات ووعي وقيم البلاد الأخرى..انها لعبة صناعة فكر الاخر بكل ما اتيح من وسائل وامكانات, لكي يصبح الاخر كلما فكر كلما قدم لك الخدمات..حتى ولو كانت هذه الخدمة لا تصب في مصلحته .. ليس مهما الأهم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الامريكية سقف السياسة الأحمر الثابت,جمهورية كانت ام ديمقراطية اللون لا فارق .
في مقابل هذا, كوبا, التي لا تنفتح على اوباما وادارته بأشخاصهم ..هي كوبا باسواقها المتواضعة واقتصادها الموجه, وثقافتها الممانعة واصالة فكرها وعاداتها, واستهلاكها المحدود بحدود تضمن للشعب أن يعي بما يفكر وكيف يفكر, وحكوماتها الثورية التي لم يعبث الدولار بأعماق طموحاتها, وشبابها الثوري الذي لم ير الحسنوات المستشقرات الاتيات من المقلب الاخر من البحر على يخت ثري براق ليزيغ تطلعاتهم من مستقبل ثورة قيمية الى شباب يهتم بقصص واخر اخبار فتيات الاعلام الموجه الامريكي.. هي كوبا وصور غيفارا وكاسترو وقصص ابطال حقيقيين لم تشوه هوليوود ذاكرة الشباب الكوبي بمشاهد مصطنعة من مخرج امريكي بارع يصنع التاريخ والمستقبل من عدسة يتحكم عبرها بالمشهد , وبالحرف والكلمة وبالتالي بالمشاهد وبالاذن فبالعقل والخيال فبالحقيقة !!!
كوبا واستثمارات وحوش المال القادمة المتسترة بستائر الانفتاح !!!
وثقافة الكاو بوي, وبطولات جايمس بوند, وعملاء وكالات الاستخبارات الامريكية مصاصو دماء الشعوب , الذين يستيقظون حين ينام الشعب ويستسلم آمنا ليرتاح.. يحيكون ويخيطون ويصنعون شكل اسواق ومتاجر ولباس واسماء فعاليات ورؤساء وتجار وممثلو وفنانو بلاده.. ليصبح الشعب على شكل أجمل وارقى واكثر جاذبية وانسجاما مع اهوائه حتى لو صار بمضمون اخر وثقل ومعنى وهدف اخر ...
بساطة الثورة الكوبية التي نجحت بمقارعة الارادة والعزيمة أمام الامتحان, امتحان خطير لكوبا التي عاشت خمسين سنة من العزة والتحمل تقارع ظالميها, قد تصبح في يوم واحد لقمة سهلة في فم ادارة اوباما المتثعلبة!!
هل تنجح أمريكا في استعادة كل الجزيرة في ايام, بعد ان خسرتها طيلة سنوات؟؟ أم أن الثورة التي عاشت وامتدت قرب سواحل الخصم بقوته ولم تهابه , تعي وتخبر من هو الخصم بحده الاول والمتستر .. وتعرف أن بعد النصر نشوة خطيرة يغتنمها هذا الماكر الاخير.
الأمل كل الامل بثورة رفض شعبها الاصيل أن تباع ثورته ويتاجر فيها, ورفض أن تدفعه بطونه الخاوية تحت ضغط عقوبات العدو وحصاره , ليكفر بقادة لونوا حياته بلون الكرامة, لكن جلبت لهم ضنك العيش.
كوبا وثورة عرفت كيف تعيش في قلوب شعوبها وتستحوذ بصدق قادتها على عقله وفكره الى حدود الهيام .. لتعيش مبادؤها في جغرافيا حساسة وظروف صعبة جدا , وتورث اجيالها معان ثورة قادة قد رحلوا تاركين بصماتهم على كل واد وجبل وحجر وشجر وبشر..
نخاف عليك كوبا, ليس لأنك ثورة لا تستحق ولا تمتلك ارادة البقاء والتكيف والتأقلم , إنما لأن عدوك القادم بابتسامة الانفتاح قد أتقن فن المكر والخداع واعتاد فكر أن يبتلع بلدا أكبر من جزيرة .. كنت قوية في النضال الاقتصادي والعسكري زمن الحصار, كل الامنيات ان تبقين قوية في الغزو الثقافي والاقتصادي والامني والسياسي ..
كل قلوبنا تريد كوبا بلدا قويا منفتحا غنيا .. لكن ما زلنا نخاف أن يسقط من يد كوبا المنجل والمقدم ويسكت صوت قيثارة الثورة التي غنت كاسترو وغيفارا ويعلو صوت التفاهة الامريكية الصاخبة وتغيب السالسا ليحل الجاز والروك والبوب وتفاهة قد ربت امريكا شعبها عليها ليبقى يرقص سكرا مخدرا متلهيا عما يجري في أرجاء قصره الأسود !!
سنبارك في قادم الأيام لكوبا انتصارها , وتهتف ضمائرنا الثورية مع شعب التشي والفيديل , وتدق قلوبنا خوفاً ووعياً في مرحلة ما بعد الانتصار !!
