الوقت- يشكّل الجدار الذي يفصل القدس المحتلة عن بيت لحم وأجزاء واسعة من الضفة الغربية أحد أكثر مظاهر الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إثارة للجدل منذ أكثر من عقدين، ليس فقط بسبب بنيته الإسمنتية الضخمة، بل لما يحمله من دلالات سياسية وقانونية وإنسانية عميقة، فبينما تصرّ سلطات الاحتلال الإسرائيلية على تقديمه باعتباره إجراءً أمنيًا، يرى الفلسطينيون والمنظمات الحقوقية الدولية أنه أداة للضمّ الزاحف وإعادة رسم الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم مشروع السيطرة الإسرائيلية طويلة الأمد على الأرض.
بدأ بناء الجدار مطلع عام 2002، في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تحت مسمى “الحاجز الأمني”، إلا أن مساره لم يلتزم بخط الهدنة لعام 1949 المعروف بالخط الأخضر، بل توغّل في عمق الضفة الغربية، محيطًا بالقدس الشرقية من جهاتها المختلفة، وقاطعًا الامتداد الطبيعي لمدن فلسطينية رئيسية مثل بيت لحم، التي كانت تاريخيًا مرتبطة بالقدس اقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا، ووفق معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن أكثر من 85% من مسار الجدار يقع داخل أراضي الضفة الغربية، ما يؤدي عمليًا إلى مصادرة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية وعزلها خلف الجدار.
في محيط بيت لحم، أدى الجدار إلى تطويق المدينة من جهاتها الشمالية والغربية، ما حرم سكانها من الوصول إلى آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية، وحدّ من التوسع العمراني الطبيعي، وأضعف قطاعات اقتصادية حيوية، أبرزها السياحة، التي تعتمد بدرجة كبيرة على التواصل الجغرافي مع القدس، كما فُرضت قيود مشددة على حركة الأفراد، حيث أصبح المرور عبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية شرطًا أساسيًا للوصول إلى القدس، سواء لأغراض العمل أو العلاج أو العبادة، الأمر الذي انعكس سلبًا على الحياة اليومية لعشرات الآلاف من الفلسطينيين.
وخلال السنوات الأخيرة، ترافقت سياسات الجدار مع تسارع ملحوظ في مشاريع الاستيطان، ولا سيما في المناطق الواقعة بين القدس وبيت لحم، وفي مقدمتها مخطط “E1” الذي يهدف إلى ربط مستوطنة “معاليه أدوميم” بالقدس، وهو مشروع حذّرت تقارير إعلامية، من بينها تقارير لقناة الجزيرة، من أنه سيؤدي إلى تقسيم الضفة الغربية فعليًا إلى شطرين شمالي وجنوبي، ما يقوّض أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا، هذه التطورات تُظهر أن الجدار لا يمكن فصله عن سياق أوسع من السياسات الرامية إلى فرض وقائع دائمة على الأرض.
وعلى الصعيد القانوني، كانت محكمة العدل الدولية قد أصدرت في عام 2004 رأيًا استشاريًا اعتبرت فيه بناء الجدار داخل الأراضي المحتلة مخالفًا للقانون الدولي، وطالبت بإزالته وتعويض المتضررين الفلسطينيين، ورغم ذلك، استمر البناء والتوسع، في ظل غياب آليات دولية ملزمة قادرة على فرض تنفيذ القرار. وتشير منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” إلى أن الجدار يشكّل جزءًا من منظومة أوسع من السياسات التمييزية، حيث تُمنح حرية الحركة والبناء للمستوطنين الإسرائيليين، بينما يُقيَّد الفلسطينيون بشبكة من الحواجز والجدران والتصاريح.
الآثار الاجتماعية والنفسية للجدار لا تقل خطورة عن آثاره المادية، فالفصل القسري بين العائلات، وعزل القرى عن مراكزها الحضرية، وتحويل التنقل اليومي إلى تجربة مرهقة وغير مضمونة، كلها عوامل ساهمت في تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني، كما أن الأجيال الشابة نشأت في بيئة يغيب عنها الإحساس بالاستقرار المكاني والقدرة على التخطيط للمستقبل، في ظل واقع تتحكم فيه الجدران والحواجز بمسار الحياة اليومية.
في المقابل، تواصل حكومة الاحتلال الإسرائيلية الدفاع عن الجدار باعتباره أداة فعّالة في تقليص الهجمات، مستندة إلى انخفاض العمليات داخل "إسرائيل" مقارنة بسنوات الانتفاضة الثانية، غير أن منتقدي هذا الطرح يرون أن الأمن لا يمكن فصله عن العدالة، وأن الإجراءات التي تنتهك الحقوق الأساسية لشعب بأكمله لا يمكن أن تشكّل أساسًا لأمن دائم، بل قد تساهم في تعميق جذور الصراع واستدامته.
في المحصلة، لم يعد الجدار الفاصل مجرد بنية تحتية أمنية، بل تحوّل إلى رمز ملموس لسياسة الفصل والإقصاء، وإلى عامل رئيسي في إعادة تشكيل الواقع السياسي والجغرافي في القدس ومحيطها، بما في ذلك بيت لحم، واستمرار هذا النهج، وفق مراقبين، يضعف فرص الحلول السياسية القائمة على القانون الدولي، ويكرّس واقعًا من عدم المساواة ينعكس مباشرة على حياة الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية.
وفی النهایة، يمكن القول إن الجدار، مهما كانت المبررات المعلنة لبنائه، يُنتج نتائج تتجاوز البعد الأمني إلى إعادة هندسة المكان والإنسان معًا، فالفصل الجغرافي يولّد فصلًا اجتماعيًا واقتصاديًا، ويخلق أزمات متراكمة لا يمكن معالجتها بإجراءات أمنية وحدها، وعليه، فإن أي مقاربة جادة لتحقيق الاستقرار في المنطقة تظل ناقصة ما لم تُعالج جذور الصراع، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال واحترام حقوق الفلسطينيين في الأرض والحرية والتنقل.
