الوقت – إن السياسات العدوانية التي ينتهجها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو لم تلفح إلا بشرّ، إذ أثقلت كاهل كيانه المنهَك بتكاليف فادحة للحرب، وعصفت باقتصاد المناطق المحتلة حتى ضاق بها أهلها ذرعاً.
واليوم، وقد خَفَت صليل الحرب في غزّة وانحسر التوتر على جبهة لبنان، بان أثر عامين من النزق العسكري والمغامرة السياسية بجلاء على صورة الاقتصاد والمجتمع في الأراضي المحتلة، فلا العيش عاد رخاءً، ولا النفوس اطمأنّت.
وفي هذا السياق، شهدت مستوطنة "كريات شمونا"، القائمة عند الحدود مع لبنان، يوم الأحد الماضي، خروج الآلاف إلى الشوارع، منادين باحتجاجات صاخبة ضد ما آلت إليه أوضاعهم من فاقة وبؤس، وناقمين على عجز حكومة نتنياهو وفشلها في إنقاذهم من وهدة المعاناة، وطالب المتظاهرون بأن يُعلن عن كريات شمونا منطقةً منكوبةً تحتاج إلى نجدة عاجلة وعناية لا تحتمل التأجيل.
هؤلاء المحتجون يرون أنّه رغم مرور عام على انقضاء الحرب مع حزب الله لم تشهد مدينتهم إعادة بناء، ولا جَبَرَ ما انكسر من حياتهم، إذ بقيت تل أبيب على حالها من التلكؤ والتقاعس، لم تبادر إلى ترميم ما تهدم، ولا بادرت إلى تسهيل عودة الأهالي الذين هجّرتهم النيران، ورغم ادعاء الحكومة بعزمها على السماح بالعودة وإعادة بناء البنى التحتية، بقيت الوعود حِبراً على ورق، وكأنّما أُريد لسكان كريات شمونا أن يظلوا في التيه، مشرّدين عن ديارهم، حالمين بعودة لا تأتي.
كريات شمونا، تلك المستوطنة الواقعة في الشمال المحتل، التي كانت فيما مضى مهوى أفئدة السيّاح، تضجّ بالحياة، وتباهي بموقعها وجمالها، باتت اليوم خراباً بعد أن نالتها نيران الحرب طُولاً وعرضاً، أوجعت المعركة مع حزب الله أرضها ونضارة عمرانها، وأرغمت الآلاف من أهلها على الفرار من بين جدران كانت تسكنهم، وها هي، بعد عامين من السكون، لا تزال جدرانها تنوح، وأزقتها متجهمة صمّاء. وأسوأ من كل ذلك، أنّ نتنياهو، غير مكتفٍ بما جلبه من دمار، لا يزال يقرع طبول حرب جديدة، كأنّما قدرُ الشمال أن يظل ساحة للخراب.
تکلفة الحرب وآثارها المدمرة
لقد اندلعت الشرارة في تشرين الأول عام 2023، حين انطلقت الحرب على غزة، فما لبثت أن قفزت شرارتها إلى حدود الشمال، تلتهب كما النار في الهشيم، فلم تكتفِ بزهق أرواح الآلاف، بل مزّقت عصب اقتصاد الكيان تمزيقاً، وأهلكت ما بقي من بنيانه المترنّح.
وحسب بيانات البنك المركزي للكيان، فإن التكلفة المباشرة لهذا الصراع، حتى تشرين الثاني من عام 2025، فاقت 68 مليار دولار، أي ما يُعادل قرابة اثني عشر بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن أجل سدّ هذا النقص العظيم، لم يجد نتنياهو بداً من تقليص ميزانيات القطاعات الاقتصادية الحيوية، يقتطع من قوت الناس ليملأ خزائن الجيش.
وعليه، فقد تضمّنت موازنة عام 2026 نحو 112 مليار شيكل (ما يربو على 35 مليار دولار) للإنفاق العسكري، وهو مبلغ يفوق ما جاء في المسوّدة الأولية بنسبة كبيرة، حيث كان المبلغ السابق لا يتجاوز 90 مليار شيكل، هذا التوسع الهائل في ميزانية الدفاع هو الرحم الذي وُلد فيه الفقر، والسوط الذي يُجلد به المواطن الصهيوني صباح مساء، إذ يجري اقتطاع الأموال من صحة الناس وتعليمهم وعيشهم الكريم، لتُضخَّ في آلة الحرب الطاحنة التي لا تشبع.
وقد ظهرت تداعيات هذه السياسة بوضوح في كريات شمونا، حيث بلغت الأزمة المعيشية أوجها، ولم يعد سوى نصف الأنشطة التجارية إلى سوق الرزق بعد أن ضربها الجمود، وحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن المؤسسات الاقتصادية في المدينة لا تجني اليوم إلا ستين في المئة من عائداتها قبل الحرب، بسبب تَغيّب أكثر من عشرة آلاف من السكان الذين لم يرجعوا إلى ديارهم، برغم هدوء الجبهة مع حزب الله.
أما التقرير السنوي الأخير لمؤسسة التأمين القومي الصهيونية، وهي الجهة المعنية بقياس مستويات الفقر وصرف المعاشات، فقد رسم صورةً حالكة السواد لما آل إليه الوضع الاقتصادي في الأرض المحتلة، فعلى الرغم من تحكّم الكيان في موارد الأرض وسرقة خيرات غيره، فإن 2.8 مليون صهيوني، منهم أكثر من مليون طفل، باتوا يعانون ما يسمى "انعدام الأمن الغذائي"، وهو تعبير مخملي لمعنى أكثر قسوةً: الجوع والعجز عن الحصول على غذاءٍ سليم أو كافٍ.
وحسب التقرير، فإن أكثر من 26.5 بالمئة من الأسر الصهيونية لم يعد بمقدورها تأمين طعام يُرقى بصحّتهم، وقد تصاعدت النسبة في أوساط المتديّنين إلى 33 بالمئة، أمّا في صفوف المجتمع العربيّ داخل الكيان، فقد تخطّت 30.8 بالمئة.
وهكذا، فإن نتنياهو، الذي أغرق شعبه في لجج الحروب، لم يخلّف وراءه سوى الدمار والفقر والجوع، وترك شعبه يرزح تحت وطأة الخوف والفاقة، في حين يراهن على نيران أخرى، تتّسع رقعتها ويعلو أوارها، حتّى تأتي على ما تبقى من بقايا العيش وبصيص الأمل.
هروب المال، وانحسار الرأسمال الأجنبي
ما إن اجتاحت نيران الحرب أرجاء المنطقة حتى امتدّ لهيبها إلى عصب الاقتصاد الصهيوني، فأصاب أوصاله بالشلل، ولم يكد يسلم منه قطاع من قطاعات الدولة إلا وتلقى ضربةً موجعةً، إذ أكّدت الإحصاءات الرسمية أن حربَي غزّة ولبنان أسفرتا عن تفاقم عجز الموازنة بأكثر من 8.1%، وتراجعٍ حادّ في العائدات الضريبية، بفعل استنزاف معظم الموارد في الإنفاق العسكري.
وحسب تقرير صدر عن صحيفة "ميدل مانيتور است"، لم يكن نموّ الاقتصاد الإسرائيلي عام 2024 سوى أقل مما كان مأمولاً، إذ لم يتجاوز نسبةً ضئيلةً بلغت نحو 1%، وذلك نتيجة هروب الاستثمارات وتقلّص التصدير، تحت وطأة دخان الحرب وقرع طبولها المستمر.
وتبرهن الوقائع الصلبة والسوابق التاريخية على هذا التراجع، فقد شهدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الأراضي المحتلّة خلال السنوات الأخيرة، انحداراً ملموساً بالمقارنة مع قمتها السابقة، وأفاد تقرير Trading Economics أن الحروب المتعاقبة—وما جرّته من اضطراب وقلق—دفعت المستثمرين الأجانب إلى التروي والتردد، والنظر بشكّ وارتياب إلى أصولهم المستثمرة ومشاريعهم الكبرى في هذه الديار، وهو ما انعكس تراجعاً في القيمة والكم، وموجة نزوح مالي لم تشهدها أسواق الاحتلال منذ أعوام.
كما جاء في تقرير "هيئة الابتكار" التابعة للكيان، أن الاستثمارات الأجنبية شهدت تقلصاً واضحاً على مدار العقدين الماضيين، ولم يقتصر الأمر على تراجع الأرقام، بل تبعته موجة نزوح للشركات التي أغلقت مكاتبها وهجرت الأراضي المحتلة إلى دولٍ أكثر طمأنينةً وأقلّ احتكاكاً بنيران الحرب.
أما في سوق تل أبيب للأوراق المالية، فقد باشر المستثمرون الأجانب عملية انسحاب ملحوظة، حيث قاموا ما بين يونيو ونهاية يوليو 2025، ببيع ما يقرب من مليارَي شيكل (ما يعادل 589 مليون دولار) من أسهمهم، متسبّبين بانخفاض صادم يقارب 20% في صافي المشتريات الأجنبية، الأمر الذي يُعدّ أحد أبرز مؤشرات الهروب المالي في العام 2025، ويُعزى هذا الانسحاب إلى تصاعد التوترات الإقليمية، وشحّ الأمن، واضطراب الأفق الاقتصادي، ما دفع كثيراً من المستثمرين إلى إعادة النظر في حضورهم ضمن مشهد مضطرب لا يُؤتمن جانبه.
وعلى الضفة الأخرى، أفادت تقارير إعلامية أن ما بين 46 إلى 60 ألف شركة صهيونية إما أغلقت أبوابها، أو على شفا الإغلاق التام، نتيجة تداعيات حرب غزّة الكارثية التي أصابت البنى الاقتصادية في مقتل.
السياحة في غيبوبة
من جراح الاقتصاد النازفة، كانت السياحة أكثرها نزفاً، وأشدّها وطأةً، إذ أتى عليها سعير الحروب حتى تركها جسداً متهالكاً لا يكاد يُحرك أطرافه، ووفقاً لما نقله World Israel News، فإن عدد السياح الوافدين إلى الكيان عام 2024 قد هبط بنسبة مهولة بلغت حوالي 68%، بعد أن تراجعت الأعداد من نحو 2 مليون و 950 ألف سائح في 2023 إلى ما يُقارب 885 ألفاً فقط خلال العام التالي.
هذا الانهيار أدّى إلى هبوط صارخ في عائدات السياحة بما يُقارب 6.5 مليارات دولار، وهو ما ألقى بظلال قاتمة على الفنادق، والمطاعم، وشركات السفر، وسائر القطاعات الحليفة التي كانت تعوّل على الزوّار القادمين لتنعش بها السوق.
صحيح أنّ بصيص تحسن طفيف بدأ يظهر في مطالع عام 2025، لكن الطريق إلى التعافي لا يزال محفوفاً بالأشواك، إذ إن عدد الزائرين لا يزال متواضعاً مقارنةً بما كان قبل الحرب، ويكاد حلم الإنعاش الشامل يبهت إن لم يُستتب الأمن وتُرفع قيود التحذير من السفر.
الهجرة المعکوسة
أما المعضلة الكبرى التي أقضّت مضاجع قادة تل أبيب وهزّت أركان منظومتهم، فليست التضخم، ولا العجز، ولا كساد السوق، بل ذاك الطوفان البشري من النزوح العكسي، الذي يسير عكس ما سعت إليه المنظومة الصهيونية لعقود طويلة.
فالمشهد اليوم لا يسرّ نتنياهو ولا حلفاءه، فالهجرة المعکوسة تُطلّ برأسها كوحشٍ يفتك بأحلامهم التوسعية. كانت حصيلة عام 2023 رحيل نحو 55.300 مستوطن عن الأراضي المحتلة، لكنّ الرقم تصاعد في سنة 2024 ليبلغ أكثر من 82.000 شخص، وفق ما نشره مركز الإحصاء المركزي في الكيان، أي بزيادة تبلغ 50% عن العام الذي سبقه، ولئن عاد نحو 25.000 شخص فقط، فإن الميزان يميل بالكفة نحو الفرار، لا العودة.
وقد سارعت حكومة نتنياهو إلى محاولة تهدئة هذا النزوح بطُعم الامتيازات، فأعلنت إعفاء العائدين والمهاجرين الجدد من ضريبة الدخل في عامي 2026 و2027، أملاً في استقطاب أصحاب المهارات وجذب رؤوس الأموال لإنعاش جسد الاقتصاد المتهالك.
بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فأطلقوا مشروعاً يحمل اسم "المليون الحادي عشر"، يرنو إلى جذب مليون يهودي آخر خلال عقد من الزمان، ليرتفع عدد السكان إلى 11 مليوناً، ويكون ذلك عبر دعم أصحاب المهن التقنية، والعلماء، ورواد الأعمال، وبتحفيز الشباب على الاستيطان وجعل المشروع مظهراً من مظاهر "المهمة الوطنية".
لكن المغريات لا تجدي نفعاً، إذ لم تُجْدِ سياسات الحروب ومعارك التوسع سوى تعميق الهلع، وإذكاء رغبة الهروب من مستوطنات تحوّلت إلى مرمى للصواريخ، ومقبرة للأحلام. فبدل أن تكون الأرض وعداً لهم، غدت لعنةً يفرّون منها.
خاتمة المطاف
إن تبعات الحروب العبثية التي خاضها الكيان الصهيوني ضد قوى المقاومة في غزّة ولبنان وسواهما، قد أوصلته إلى مفترق طرق مظلم، لا تبصر فيه الإرادة السياسية فجر الخلاص، ولا ترى فيه الخطط الاقتصادية بصيص الأمل.
فالكيان اليوم كالسفينة المخرومة، ينزف من ثقوب متعددة؛ اقتصادٌ هشّ، مجتمعٌ قلق، ونظامٌ سياسيٌ يتخبّط تحت وطأة الحروب التي توسّع رقعتها يوماً إثر آخر. وإن ظلّت حكومة نتنياهو تلهث خلف وهْم الهيمنة وتغذّي نيران التوتر في غزّة ولبنان، وربما إيران، فإنها تفتح أبواب الفوضى على مصاريعها، وتدفع الكيان نحو هاوية الاحتقان الشعبي والمزيد من الانهيارات، وما احتجاجات كريات شمونا إلا جرس إنذار أولي لما قد يصبح طوفاناً لا يُمهل.
