الوقت- تشير أحدث بيانات مؤسسة "غالوب" لعام 2025 إلى تحوّل اجتماعي لافت في الولايات المتحدة: ارتفاع غير مسبوق في عدد النساء الأميركيات الأصغر سنًا (من 15 إلى 44 عامًا) اللواتي يرغبن في مغادرة البلاد بشكل دائم. فقد وصلت نسبة الراغبات في الهجرة إلى 40%، بعد أن كانت 10% فقط قبل عقد واحد، ويكشف هذا التغيير الكبير عن أزمة ثقة عميقة تعيشها شريحة واسعة من الجيل النسائي الجديد في أمريكا، كما يسلط الضوء على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدفعهن نحو الخارج، وفي مقدّمته كندا.
1. أزمة ثقة متراكمة بالمؤسسات الأمريكية
تظهر البيانات أن الدافع الأبرز وراء هذا التوجه هو فقدان الثقة في المؤسسات الأميركية: القضاء، الكونغرس، النظام الصحي، والبيئة السياسية بشكل عام، فالنساء الأصغر سنًا يشعرن أن النظام لم يعد قادرًا على ضمان حقوقهن الأساسية -وفي مقدمتها الحقوق الإنجابية- ولا على توفير شعور الاستقرار الذي كان يميز الولايات المتحدة تاريخيًا.
هذا التراجع في الثقة ليس جديدًا، لكنه تضخم منذ عام 2016، وهو العام الأخير لحكم باراك أوباما وبداية صعود دونالد ترامب. ومع كل دورة سياسية تزداد فيها الاستقطابات، يتزايد كذلك شعور الشابات بأن الحياة في أمريكا تتجه نحو مزيد من الانقسام والفوضى التشريعية.
2. ملف الحقوق الإنجابية: نقطة التحول الكبرى
ربما كان العامل الأكثر تأثيرًا في هذا التحول هو التراجع الكبير في حقوق الإجهاض والإنجاب بعد قرار المحكمة العليا الأمريكية في عام 2022 إلغاء حكم Roe v. Wade الذي كان يحمي حق الإجهاض على المستوى الفيدرالي، هذا القرار اعتُبر بالنسبة لكثيرات ضربة مباشرة لحرياتهن الشخصية ولأجسادهن.
في المقابل، أعلنت كندا بشكل واضح أنها ترحب بالنساء الأمريكيات الباحثات عن خدمات صحية آمنة بعد تراجعها في الولايات المتحدة، ما جعلها الملاذ الأول للراغبات في الهجرة أو في حياة قانونية أكثر استقرارًا.
3. المناخ السياسي الأمريكي: خوف من المستقبل
لا تخفي شريحة واسعة من الشابات مخاوفها من إمكانية عودة ترامب أو استمرار التيار السياسي المحافظ في فرض قوانين أكثر صرامة على الحريات الفردية، وغالبًا ما ترتبط رغبة النساء في الهجرة بتوقعات قاتمة للوضع المستقبلي في الولايات المتحدة، وخاصة في ظل تهديدات متكررة بإجراء تغييرات دستورية وقانونية تطال:
- الهجرة والحدود
- حقوق الأقليات
- التعليم
- قوانين الصحة الإنجابية
وبما أن الجيل الأصغر يولي أهمية عالية للحريات الاجتماعية، فإن تغيّر المناخ السياسي يجعل البقاء في البلاد خيارًا أقل جاذبية.
4. العوامل الاقتصادية والمعيشية
إلى جانب السياسة والحقوق، تواجه الشابات الأميركيات ضغوطًا اقتصادية متزايدة:
- ارتفاع أسعار السكن بشكل غير مسبوق
- تكاليف التعليم الجامعي المرتفعة
- نظام الرعاية الصحية المكلف
- عدم استقرار سوق العمل
وفي المقابل، تُعد كندا —بخدماتها الصحية العامة وتعليمها الأقل تكلفة وبرامج الهجرة الواضحة— بيئة أكثر استقرارًا وأقل ضغطًا، وخصوصًا للشابات في بداية حياتهن المهنية.
5. لماذا كندا تحديدًا؟
تتصدر كندا قائمة الوجهات المرغوبة لدى النساء الأميركيات منذ عام 2022 بنسبة 11%، متقدمة على نيوزيلندا وإيطاليا واليابان.
وتعود هذه الأفضلية إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
- قرب جغرافي وثقافي يجعل الانتقال أسهل نسبياً مقارنة بوجهات أبعد.
- بيئة سياسية أكثر استقرارًا وأقل استقطابًا.
- قوانين تقدمية فيما يخص المرأة، وخصوصًا في مجالات الحقوق الإنجابية والمساواة في العمل وحماية الأسرة.
6. التبعات: ماذا يعني فقدان الجيل النسائي الأصغر؟
إذا تحولت الرغبة إلى حركة هجرة فعلية، فقد تواجه الولايات المتحدة تبعات خطيرة:
- خسارة فئة عمرية حيوية في سوق العمل وفي منظومة الابتكار والاقتصاد.
- تراجع الوزن الديموغرافي للنساء المتعلمات الشابات، ما يؤثر على التوازن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
- اتساع الفجوة بين الأجيال وزيادة الاستقطاب السياسي، إذ يغادر الأكثر انفتاحًا ويبقى الأكثر تشددًا.
من جهة أخرى، فإن توجه الشابات إلى كندا يعزز قوة الاقتصاد الكندي، ويمنحها فئة عاملة متعلمة تسهم في سوق العمل والتكنولوجيا والصحة.
ختام القول
تكشف أرقام “غالوب” عن لحظة مفصلية في التاريخ الاجتماعي الأمريكي، جيل نسائي كامل يفقد إيمانه بالبلاد ويبحث عن مستقبل في مكان آخر، ليست القضية مجرد رغبة فردية في السفر، بل نتيجة منظومة من الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت الحياة في الولايات المتحدة أقل جاذبية وأكثر هشاشة بالنسبة للشابات، وفي ظل استمرار التراجع في الثقة بالمؤسسات وتقلّب المشهد السياسي، يبدو أن كندا ستظل الوجهة الأولى لهذا النزيف البشري النسائي المتسارع، ما لم تتمكن واشنطن من معالجة جذور الأزمة واستعادة ثقة نصف المجتمع.
