الوقت- مع استمرار العدوان على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، وسط دمار واسع في البنية التحتية وخسائر بشرية كبيرة، لا يقتصر الحصار على الجانب العسكري فقط، بل امتد ليشمل السيطرة على وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، في خطوة تعتبرها منظمات حقوقية دولية انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني. صحيفة "هآرتس" العبرية كشفت مؤخراً أن حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي اتخذت إجراءً جديداً صارماً عبر وزارة الشتات، أدى إلى تعطيل عمل عشرات المنظمات الإنسانية، وتعليق آلاف الأطنان من المساعدات خارج غزة، ما يضاعف معاناة المدنيين ويحوّل المساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط وعقاب جماعي.
وزارة الشتات: السلطة الجديدة للتحكم بالمساعدات الإنسانية
بحسب هآرتس، تم في مارس/آذار الماضي نقل صلاحيات تسجيل المنظمات الإنسانية العاملة في غزة والضفة الغربية من وزارة الرفاه إلى وزارة الشتات، التي يرأسها عميحاي شيكلي من حزب الليكود. الانتقال من وزارة متخصصة بالرفاه الاجتماعي إلى وزارة سياسية مرتبطة بسياسات الشتات والسيطرة على الفلسطينيين ليس مجرد تغيير إداري، بل يمثل تحوّلاً استراتيجياً في طريقة إدارة المساعدات الإنسانية.
وزارة الشتات وضعت شروطاً صارمة للغاية للحصول على تصاريح العمل والدخول إلى غزة، من بينها تقديم قوائم مفصلة بجميع الموظفين، سواء كانوا فلسطينيين أو أجانب، بالإضافة إلى معلومات عن أفراد عائلاتهم. كما منحت لنفسها الحق في رفض أي طلب لمنظمة إذا اعتبرت أن المنظمة أو موظفيها ينكرون وجود كيان الاحتلال كدولة يهودية وديمقراطية، أو يعملون على "نزع شرعيته"، وفق ما نقلته هآرتس.
منذ تطبيق هذا الإجراء، أجبرت عشرات المنظمات على وقف أنشطتها بالكامل، حيث لم تُجدِ محاولات استكمال الإجراءات أو تقديم المستندات المتطلبة، في حين أن الوزارة رفضت منذ سبتمبر الماضي 14 طلباً من أصل 100 طلب تقدمت بها منظمات للعمل داخل غزة والضفة الغربية، بينما بقيت بقية الطلبات قيد الفحص. هذه الأرقام، وإن بدا أنها صغيرة على الورق، إلا أنها تمثل تجميد آلاف المبادرات الإنسانية التي كانت تصل إلى المدنيين بشكل منتظم.
المساعدات العالقة: آلاف الأطنان خارج القطاع
أدى هذا الإجراء إلى تعليق دخول آلاف الأطنان من المواد الغذائية والمستلزمات الأساسية إلى غزة، بما في ذلك الخيام والمراتب والأغطية البلاستيكية ومواد النظافة ومعدات تحلية المياه والملابس الشتوية. وبحسب هآرتس، حاولت بعض المنظمات الاستفادة من طرق بديلة، عبر وكالات الأمم المتحدة أو منظمات أخرى حاصلة على تصاريح، لإدخال المساعدات، لكن الاحتلال منع هذه المحاولات أيضاً، ما ترك المواد الإنسانية معلقة خارج القطاع أو في دول مجاورة مثل الأردن ومصر.
هذه المواد العالقة تمثل خطراً مباشراً على المدنيين، إذ تساهم في تفاقم الأوضاع الإنسانية المتدهورة أصلاً بسبب الحصار والعمليات العسكرية. كل يوم تأخير في وصول المساعدات يعني مزيداً من الجوع والبرد والأمراض، خصوصاً في ظل الشتاء القارس ونقص الوقود والمياه النظيفة والكهرباء.
انتهاك وقف إطلاق النار واستخدام المساعدات كأداة ضغط
منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، واصلت حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي خرقه بشكل مستمر. فإلى جانب تنفيذ هجمات متفرقة، تم تقييد دخول المساعدات الإنسانية بالكميات المتفق عليها، ما يعكس استخدام وقف إطلاق النار كواجهة سياسية، بينما يتم في الواقع استمرار سياسة العقاب الجماعي للسكان المدنيين.
تعليق وصول المساعدات، ومنع الفرق الإنسانية من العمل، يجعل المدنيين في غزة رهائن السياسة الإدارية والأمنية للاحتلال، إذ يُجبر السكان على الانتظار بلا غذاء أو أغطية أو مياه صالحة للشرب. هذا الأسلوب يعكس توجه الاحتلال إلى ربط المساعدات الإنسانية بالسياسة، بحيث تصبح الأدوات الأساسية للبقاء على قيد الحياة وسيلة للضغط السياسي والاقتصادي.
الأبعاد الإنسانية للقيود الجديدة
السيطرة الكاملة على منح التصاريح، ورفض الطلبات بشكل موسع، وتعليق دخول المواد الأساسية، أدى إلى أزمة إنسانية متصاعدة. آلاف الأسر في غزة أصبحت غير قادرة على الحصول على احتياجاتها الأساسية، ما يضاعف المخاطر الصحية ويزيد من احتمالات الوفاة بين الأطفال وكبار السن والمرضى.
توقيف المساعدات يترك المدنيين بدون أي شبكة أمان، ما يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني الذي يلزم الاحتلال بتسهيل مرور المساعدات الأساسية إلى السكان المدنيين، ويجعل المدنيين في غزة ضحايا عقاب جماعي ممنهج، وهو أمر محظور بموجب اتفاقيات جنيف.
قراءة سياسية للإجراءات
تسعى حكومة كيان الاحتلال من خلال وزارة الشتات إلى فرض سيطرة كاملة على آلية وصول المساعدات، بحيث لا تستطيع أي منظمة العمل إلا بموافقة هذه الوزارة، التي تتخذ قراراتها على أساس اعتبارات سياسية وأيديولوجية، وليس على أساس الحاجة الإنسانية.
وبحسب هآرتس، بعض المنظمات كانت تعمل مع ما سُمّي بـ "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي أنشأها الاحتلال بالاشتراك مع الولايات المتحدة لتكون وسيلة بديلة عن وكالات الأمم المتحدة، وتخضع بشكل كامل لسيطرة الاحتلال. هذا يعكس محاولة الاحتلال إعادة توجيه المساعدات بعيداً عن أي كيان مستقل، ما يقلص مساحة العمل الإنساني ويحوّل المساعدات إلى أداة ضغط سياسي.
أثر العراقيل على حياة المدنيين
تجميد آلاف الأطنان من المساعدات، ورفض التصاريح، أدى إلى توقف عمل الفرق الإنسانية التي كانت توصل الغذاء والدواء والخيام والملابس للمدنيين. الأطفال والنساء وكبار السن أصبحوا في مواجهة مباشرة مع مخاطر الجوع والمرض والبرد، في حين يبقى سكان غزة محاصرين بين الحصار العسكري والحصار الإنساني الممنهج.
تعليق المساعدات يمثل عقاباً جماعياً واضحاً للسكان المدنيين، وهو انتهاك متكرر لمبدأ الحماية الذي ينص عليه القانون الدولي الإنساني. فالمدنيون لا علاقة لهم بالعمليات العسكرية، إلا أنهم يعاقبون نتيجة سياسات الاحتلال الإدارية والسياسية، ما يجعل الأزمة الإنسانية في القطاع أشد حدة وتعقيداً.
ختام القول
تكشف الإجراءات التي فرضتها وزارة الشتات الإسرائيلية عن سياسة ممنهجة للتحكم في وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث يتم رفض طلبات المنظمات وتجميد آلاف الأطنان من المواد الأساسية، في خرق واضح لوقف إطلاق النار وللقانون الدولي الإنساني.
هذه السياسة لا تُعد مجرد عراقيل إدارية، بل تمثل أداة ضغط سياسية وعقاب جماعي للسكان المدنيين، الذين يواجهون الآن حصاراً مزدوجاً: حصار عسكري مباشر، وحصار إنساني يعيق أي محاولة لتخفيف معاناتهم. المئات من المنظمات الإنسانية أصبحت عاجزة عن أداء مهامها، والمواد العالقة خارج القطاع تظل رمزية لمعاناة السكان الذين أصبحوا رهائن سياسات الاحتلال في غزة.
إن التركيز على وزارة الشتات، رفض الطلبات، وتعليق دخول المساعدات، يوضح أن سياسة الاحتلال لا تقتصر على الحرب على الأرض، بل تمتد لتشمل السيطرة على حياة المدنيين ومواردهم الأساسية، ما يجعل الوضع الإنساني في القطاع أكثر خطورة من أي وقت مضى.
