الوقت- أظهرت المعارك الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والجيش الصهيوني مشهداً غير مسبوق في موازين القوة، فقد أقرّ قادة الكيان، بلسان عدد من ضباطه وإعلامه العسكري، بأن المقاتلين الفلسطينيين أثبتوا تفوقاً ميدانياً لافتاً رغم امتلاك العدو ترسانة من الأسلحة المتطورة، تشمل الطائرات الحربية، والدبابات، وأنظمة المراقبة والتجسس الأكثر تقدماً في العالم.
هذا الاعتراف، الذي لم يكن من السهل أن يصدر عن منظومة طالما تغنت بتفوّقها الأمني والعسكري، يعكس حجم الإرباك والصدمة التي أصابت المؤسسة العسكرية والسياسية في الكيان بعد المواجهة مع مقاتلي حماس، الذين خاضوا المعركة بقدرات عالية وتنظيم دقيق يشبه أداء الجيوش النظامية.
جيش منظّم لا مجرد مقاومة
لم تعد كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مجموعات متفرقة من المقاتلين تعتمد على المفاجأة والمبادرة الفردية، بل باتت تمتلك جيشاً مدرباً ومنظماً، قادراً على تنفيذ عمليات معقدة ومتزامنة في البر والبحر والجو.
لقد بيّنت المعركة أن المقاومة الفلسطينية انتقلت من مرحلة الدفاع المحدود إلى الهجوم المنسّق، مستخدمة أساليب عسكرية متطورة مثل التسلل خلف خطوط العدو، وتنفيذ كمائن محكمة، وتوظيف الأنفاق الهجومية كعنصر استراتيجي أربك الجيش الصهيوني الذي لم يتمكن من التعامل مع الأشباح الذين خرجوا من باطن الأرض ليصطادوا الجنود في مواقعهم المحصنة.
اللافت في هذه المواجهة أن المقاتلين الفلسطينيين لم يظهروا كقوة ردّ فعل فحسب، بل كمبادرة تمتلك خطة واستراتيجية وقيادة موحدة، ما أضفى على أدائهم طابع الجيش المنظم أكثر من مجرد حركة مقاومة.
الروح المعنوية كسلاح حاسم
لا يمكن تفسير هذا التفوق الميداني فقط بعوامل التدريب والتنظيم، بل إن العامل النفسي والمعنوي لعب دوراً حاسماً، المقاتل الفلسطيني يخوض المعركة مؤمناً بعدالة قضيته واستعداده للتضحية حتى آخر رمق، في حين أن الجندي الصهيوني يقاتل وسط خوفٍ دائم وشعورٍ بعدم الجدوى من حربٍ لا يعرف كيف تنتهي. هذه المفارقة تجلّت بوضوح في صور الاشتباكات القريبة، حيث ظهر المقاتلون الفلسطينيون بثقة وثبات، في مقابل ارتباك الجنود الإسرائيليين الذين انهارت خطوطهم الدفاعية في أكثر من موقع، الروح المعنوية العالية كانت، ولا تزال، السلاح الذي لا يُقهر في يد المقاومة، لأنها تستمد قوتها من قناعتها العقائدية ومن ارتباطها بالشعب الذي يحتضنها رغم المعاناة والقصف والدمار.
خسائر العدو: ما بين الصدمة والتعتيم
لم يعلن الكيان الصهيوني بعد عن الأرقام الحقيقية لخسائره البشرية والمادية، لكن التسريبات والتقارير الميدانية تشير إلى أن حجمها يفوق بكثير ما يحاول الإعلام الرسمي إخفاءه، صور العربات المحترقة، والدبابات المدمرة، ومشاهد انسحاب القوات من بعض المواقع تحت نيران المقاومة، رسمت مشهداً غير مألوف في الوعي الإسرائيلي الذي تربّى على فكرة الجيش الذي لا يُهزم.
إضافة إلى الخسائر المادية، تكبّد الكيان خسارة معنوية وسياسية لا تقل فداحة؛ فقد اهتزت صورة الردع، وتزعزعت ثقة المجتمع الإسرائيلي في قيادته، وارتفعت الأصوات داخل الكنيست والمؤسسة الأمنية مطالبة بالتحقيق في الإخفاق الأكبر منذ حرب أكتوبر.
هذا الانكشاف الميداني جعل الاحتلال يدرك أن المواجهة مع حماس لم تعد مجرد عملية أمنية، بل معركة وجودية تمس هيبته ومكانته في المنطقة.
حماس وصناعة النصر
في المقابل، خرجت حماس من هذه المعركة بصورة المنتصر الميداني والمعنوي، لقد استطاعت الحركة أن تُثبت قدرتها على التخطيط والإدارة والسيطرة في ظروفٍ بالغة القسوة، تحت القصف والحصار والتضييق.
قيادتها الميدانية أظهرت تماسُكاً لافتاً، إذ لم تفقد السيطرة على مجريات القتال رغم شراسة الهجمات الجوية، ما يدل على وجود بنية عسكرية متماسكة ومعلومات استخبارية دقيقة مكّنتها من إدارة المعركة بفعالية.
كما نجحت حماس في تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في نقل المعركة إلى عمق الكيان، وكسر حاجز الخوف النفسي الذي حاول الاحتلال فرضه لعقود، هذا النصر المعنوي كان كافياً ليغيّر قواعد اللعبة في المنطقة، ويؤسس لمرحلة جديدة من الصراع عنوانها توازن الردع الشعبي والعسكري.
انهيار صورة القوة الإسرائيلية
المفارقة الكبرى أن الكيان الصهيوني، الذي طالما قدّم نفسه كقوة إقليمية لا تُقهر، وجد نفسه عاجزاً أمام مجموعة من المقاتلين الذين يعتمدون على شجاعة الإرادة أكثر من وفرة السلاح، لقد سقطت مقولة الأمن المطلق التي كانت الركيزة الأساسية في العقيدة الصهيونية، وبدأ الداخل الإسرائيلي يعيش حالة من الشك والقلق تجاه مستقبل الكيان في ظل تصاعد قدرات المقاومة.
فبعد كل ضربة تتلقاها "إسرائيل"، يتعمق الوعي في المنطقة بأن التفوق العسكري لا يضمن النصر، وأن إرادة التحرر أقوى من ترسانة التكنولوجيا.
معادلة جديدة في الصراع
المعركة الأخيرة لم تكن مجرد جولة عسكرية عابرة، بل نقطة تحول في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. لقد فرضت المقاومة معادلة جديدة عنوانها "لا أمن بلا عدل"، وأثبتت أن الحصار والقصف لا يكسران إرادة الشعوب، وأن الكفاح المنظم والمبني على العقيدة يمكن أن يهزم أعتى الجيوش.
حماس، بما أظهرته من صلابة وتنظيم وتكتيك، غيّرت وجه المعركة وأجبرت العدو على مراجعة حساباته، في حين ظلّ الشعب الفلسطيني مصدر الإلهام والدافع الأكبر لصمود المقاتلين.
هكذا، بين الدمار والدماء، كتب الفلسطينيون فصلاً جديداً من تاريخ المواجهة: فصلٌ عنوانه أنّ القوة ليست في السلاح وحده، بل في الإيمان بالحق والاستعداد للتضحية من أجله.
