الوقت- وسط الدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية على غزة، لم تكن المستشفيات مجرد أماكن للعلاج، بل تحوّلت إلى خطوط نارٍ متقدمة، يقاتل فيها الأطباء والممرضون بأدوات شبه معدومة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح المدنيين، ومع تصاعد القصف واستهداف المرافق الصحية، باتت شهادات الأطباء – الفلسطينيين والدوليين – وثائق دامغة على ما يمكن وصفه بأنه "إبادة جماعية مغلفة بلغة الحرب، تلك الشهادات التي وثّقتها تقارير إعلامية دولية وعربية، لا تكتفي بسرد المعاناة الإنسانية، بل تكشف عن انهيارٍ شاملٍ للمنظومة الصحية والأخلاقية في القطاع، حيث أصبح القرار الطبي مرتبطًا بالحياة والموت أكثر من أي وقتٍ مضى.
قرارات مستحيلة في غرف الطوارئ
من داخل أحد المستشفيات المدمّرة جزئياً في شمال غزة، يروي طبيب فلسطيني كيف كان عليه وزملاؤه اتخاذ قراراتٍ لا يمكن لأي إنسانٍ تحملها:
"كنا نضطر أن نعالج أحد الأطفال ونترك الآخر لمصيره"، يقول بأسى، مضيفًا إن كل قرارٍ علاجي في ظل الحرب "كان أشبه بمقامرة قاسية مع الموت".
هذا الواقع المؤلم لم يكن استثناءً، بل قاعدةً يومية في مستشفيات القطاع. فمع انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود والأدوية، لم تعد الأولوية لمن هو أكثر حاجة، بل لمن يملك فرصةً أكبر للبقاء، وفي أحيانٍ كثيرة، كان الطبيب يختار من يعيش بناءً على وجود سريرٍ فارغ أو جهاز تنفسٍ لم يتعطل بعد.
شهادة أمريكية: "ما رأيته ليس حربًا بل إبادة"
الطبيب الأمريكي يوسف، الذي تطوع مع بعثة طبية إلى غزة، كتب بعد عودته يومياتٍ مؤثرة تصف مشاهد لا تُنسى، يقول:
"ما رأيته في غزة لم يكن حربًا، بل إبادة، رأيت كل ما تعلمته عن الإصابات والحروق يحدث أمامي في يومٍ واحد، في كل مرة أظن أن الوضع لا يمكن أن يكون أسوأ، يقع ما هو أسوأ."
يروي يوسف كيف وصلت إلى المستشفى شابةٌ تبلغ 23 عامًا، مغطاة بالكامل بالحروق، ليكتشف الأطباء بعد فوات الأوان أنها كانت حاملاً، "وقفنا عاجزين أمامها. لم يكن هناك شيء نستطيع فعله سوى انتظار موتها البطيء"، يقول بصوتٍ اختنق بالدموع.
ويضيف الطبيب الأمريكي: "في يومٍ آخر، لفظت طفلة تُدعى فرح، عمرها 12 عامًا، أنفاسها الأخيرة بين يديّ بسبب نقص الإمكانيات، كانت تشبه ابنتي، في نفس العمر والحجم، لا أزال أشعر بيديها حول عنقي وهي تستجدي الحياة."
هذه التجارب القاسية دفعت يوسف إلى إعادة تعريف دوره، "لم أعد مجرد طبيب. صرت شاهدًا على الإبادة، الطب في غزة لم يعد مهنة، بل مقاومة أخلاقية في وجه الموت."
مفاضلة بين الموتى والأحياء
في شهادته التي نشرتها وسائل إعلام أمريكية، تحدث يوسف عن "مفاضلةٍ يومية" بين المرضى، يصفها بأنها أبشع ما يمكن للطبيب أن يعيشه.
"كل ساعة نتخذ قرارات من يعيش ومن يموت: من يُمنح جهاز التنفس الصناعي؟ من يحصل على آخر كيس دم؟ ومن يُترك على الأرض؟"
ويتابع: "السبب الذي يجعلنا نبكي لم يعد الحزن، بل العجز، العجز عن وقف أقوى دولة في العالم عن قصف المستشفيات فوق رؤوس المرضى."
كلمات يوسف تكشف عمق المأساة التي تعيشها الكوادر الطبية في غزة، والتي وجدت نفسها بين مطرقة القصف وسندان العجز، فالمستشفيات باتت بلا وقود لتشغيل المولدات، والأدوية تُهرّب عبر الأنفاق أو تُستخدم في حدودها الدنيا، بينما المرضى يتكدسون على الأرض ينتظرون دورهم في "معركة البقاء".
طبيبة بريطانية: "أطفال غزة أصغر من أعمارهم"
أما الجراحة البريطانية التي عملت في غزة لأسابيع، فتصف حالة الأطفال بأنها صادمة، تقول:
"أطفال غزة أصغر حجماً بكثير من الأطفال في الغرب، أجسادهم ضعيفة وهزيلة، ووجوههم شاحبة، يعانون من نقصٍ حاد في الفيتامينات والمعادن، ما يجعل جروحهم لا تلتئم بسهولة."
وتضيف إن نقص التغذية والدواء جعل من العمليات الجراحية تحدياً مستحيلاً:
"كنا نضطر إلى خياطة الجروح دون تخدير كافٍ، أو باستخدام أدوات غير معقّمة، الطب هنا ليس علاجًا بل محاولة لتخفيف الألم قدر الإمكان."
تشير الطبيبة إلى أن معاناة الأطفال ليست فقط من القصف، بل من الجوع أيضًا، "الطفل في غزة لا يحصل على وجبة كاملة منذ أسابيع، فكيف يمكن لجسمٍ ضعيفٍ أن يواجه الجراحات أو العدوى؟"، تسأل بأسى.
أطباء العالم: من الطب إلى الشهادة الإنسانية
لم تكن شهادة يوسف والطبيبة البريطانية سوى جزءٍ من مشهدٍ أوسع، يرويه أطباء من مختلف الدول.
تامي أبو غنيم، طبيبة طب الطوارئ الأمريكية، زارت غزة مرتين خلال ستة أشهر، وتقول إنها لم تشهد في حياتها معاناةً مشابهة:
"عالجنا مئات النساء والأطفال المصابين بشظايا القنابل وحطام المباني، كنا نعمل على ضوء المصابيح اليدوية، بينما الطائرات الإسرائيلية تحلّق فوق رؤوسنا."
تروي تامي أن أكثر ما أثّر فيها هو "نظرات الأطفال الذين لم يعودوا يبكون"، مضيفة:
"رأيت أطفالًا يفقدون أطرافهم دون دموع، كأن الألم أصبح جزءًا من يومهم الطبيعي."
هذه الشهادات مجتمعة تؤكد أن المشهد في غزة يتجاوز المفهوم العسكري للحرب، ليصل إلى مستوى منظم من التدمير الممنهج للمدنيين، حيث يتحول الطب نفسه إلى خط دفاعٍ أخير عن الكرامة الإنسانية.
المنظومة الصحية تنهار... والعالم يتفرج
حسب منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 70% من المرافق الصحية في غزة خرجت عن الخدمة منذ بداية الحرب، فيما تم تدمير العشرات من المستشفيات كليًا أو جزئيًا، مئات الأطباء والممرضين قُتلوا أثناء أداء واجبهم، وبعضهم استُهدف داخل سيارات الإسعاف أو في المستشفيات التي لجؤوا إليها مع عائلاتهم.
يقول أحد أطباء مستشفى كمال عدوان شمال غزة:"نحن لا نعمل في مستشفى، بل في خندقٍ تحت النار. القصف يطاول الممرات وغرف العمليات وغرف الولادة، لم نعد نفرّق بين مكانٍ آمنٍ وآخر."
هذا الواقع يضع المجتمع الدولي أمام اختبارٍ أخلاقي وإنساني غير مسبوق، فاستهداف الأطباء والمستشفيات يعد انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، ومع ذلك يستمر العالم في التزام الصمت، وكأن حياة الفلسطينيين خارج نطاق القانون الدولي.
حين يصبح الطبيب شاهدًا على الإبادة
تؤكد شهادات الأطباء في غزة أن ما يجري ليس مجرد مأساة طبية، بل كارثة أخلاقية وإنسانية تمس ضمير العالم بأسره، الطبيب الأمريكي يوسف كتب في نهاية مذكراته:
"كنا نظن أن الطب قادر على إنقاذ الأرواح، لكن في غزة تعلمنا أن الطب وحده لا يكفي، ما لم تتوقف القنابل، فإن كل عملية جراحية هي مجرد تأجيلٍ للموت."
بهذه الكلمات تختتم قصة الأطباء الذين وقفوا في مواجهة الإبادة بأيديهم العارية، لم يحملوا السلاح، بل ضماداتٍ ومشارط، لكنهم خاضوا معركة الشرف الأخيرة دفاعًا عن المعنى الإنساني للحياة.
وفي وقتٍ يتواصل فيه القصف والحصار، تبقى شهاداتهم حية، تذكّر العالم بأن ما يجري في غزة ليس حربًا، بل محوٌ متعمّد للحياة، ببطءٍ وبدقةٍ طبية توثّق كل لحظةٍ من الألم.
