الوقت- تجلت المواجهة الاثني عشرية بين إيران والكيان الصهيوني ليس كحدث عسكري عابر، بل كمنعطف تاريخي فارق في مسار المنازعات بغرب آسيا، فعلى مدار أربعة عقود، اتسمت المجابهة بين إيران والكيان الصهيوني بطابعها غير المباشر، وفي السنوات الأخيرة تحولت هذه المناوشات إلى مزيج من العمليات السيبرانية ومواجهات القوى الوكيلة، تتخللها عمليات اغتيال متقطعة لعلماء وقادة إيرانيين، حتى تصاعدت في العام الجاري لتتجاوز حدودها المعهودة وتتحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين، مما يعكس تحولاً جوهرياً في طبيعة وحدّة التوترات الإقليمية.
اندلعت شرارة هذه المواجهة نتيجة تضافر عدة عوامل متزامنة: مزاعم الغرب والكيان الصهيوني بشأن اقتراب إيران من عتبة صناعة السلاح النووي، وتصاعد التوترات في البحر الأحمر، ومخاوف الكيان المحتل من تغير موازين القوى في المنطقة.
انبثقت شرارة الحرب في الثالث عشر من يونيو 2025 باغتيال قادة عسكريين بارزين وعلماء نوويين إيرانيين، وغارات جوية صهيونية استهدفت المنشآت النووية، نُفذت هذه الهجمات ضمن عملية أطلق عليها “الأسد الصاعد” وكان هدفها توجيه ضربات محدودة لكن مؤثرة لإعاقة البرنامج النووي الإيراني.
ردّت طهران بإطلاق وابل من الصواريخ والمسيّرات استهدفت تل أبيب وحيفا والمراكز العسكرية والبنى التحتية في الأراضي المحتلة، استمرت هذه المواجهة المباشرة اثني عشر يوماً، بيد أن آثارها تجاوزت حدود المنطقة، فارتفعت أسعار النفط، وتذبذبت الأسواق المالية العالمية، وهرعت بعض الحكومات لاحتواء الأزمة.
استأثرت هذه المواجهة باهتمام بالغ في وسائل الإعلام ومراكز الفكر الغربية، واستقطبت أنظار الخبراء والمحللين، وفي الأسابيع التي أعقبت انطفاء أوار المعركة، تدفقت تقارير ومقالات عديدة تسبر أغوار الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية للمواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، وقد تناول المحللون التداعيات الإقليمية لهذه الحرب، وتأثيرها في ميزان القوى بغرب آسيا، والتبعات المحتملة للأسواق العالمية، مع استشراف سيناريوهات المستقبل.
لم تقتصر أهمية هذه الحرب في نظر المؤسسات الفكرية الأمريكية على حجم الدمار أو الخسائر البشرية، بل تكمن في جوهرها ونمطها، وصف كثير من محللي هذه المراكز هذه الحرب بأنها نموذج لـ “المواجهات الخاطفة، الحادة، والمضبوطة”، وهو نمط قد يتحول إلى النموذج السائد للحروب المستقبلية في غرب آسيا.
تصدّت المؤسسات الفكرية الأمريكية مثل “راند، بروكينجز، معهد دراسات الحرب، مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مجلس العلاقات الخارجية، المجلس الأطلسي، كارنيجي وهدسون”، إضافةً إلى بعض مراكز الفكر الأوروبية، لتحليل هذه المعركة كل من زاوية مختلفة.
سلط بعضها الضوء على مكامن القوة والضعف العسكرية لدى الطرفين، بينما أبرز آخرون التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية. وقد غدت هذه المجموعة من التقارير اليوم مصدراً ثميناً لفهم الأبعاد الحقيقية للحرب الاثني عشرية ومستقبل أمن المنطقة.
كسر المحرمات من قبل طهران وتل أبيب
أوردت مؤسستا “بروكينجز وراند” في تقاريرهما أن الكيان الصهيوني، بعد تمحيص دقيق للمشهد الإقليمي ومع استحضار قدراته الدفاعية والعسكرية، صمّم هجوماً محدوداً ومدروساً بهدف إعاقة البرنامج النووي الإيراني مع تفادي الانزلاق إلى حرب شاملة.
وفقاً لتقرير “مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية”، كانت أهداف هذه العملية محدودةً ودقيقةً، واستهدفت في المقام الأول مراكز بحوث وتطوير أجهزة الطرد المركزي، والمنشآت النووية، ومستودعات تخزين اليورانيوم المخصب. كان الهدف الرئيسي إحداث اضطراب مؤقت وممارسة ضغط نفسي لإبطاء وتيرة التقدم النووي الإيراني، دون دفع طهران إلى رد فعل واسع النطاق وطويل الأمد.
أكد خبراء بروكينجز أن "إسرائيل" أبانت بوضوح أنها لا تسعى إلى تغيير سياسي فوري أو تدمير القدرات النووية الإيرانية بالكامل، بل تستهدف الردع التكتيكي والمؤقت.
من منظور مؤسسة “راند”، استعرض الكيان الصهيوني قبل شنّ الهجوم سيناريوهات متعددة: الأول، هجوم شامل وتدمير البنى التحتية. الثاني، هجمات محدودة بأقل ضرر للمدنيين. والثالث، انسحاب دبلوماسي دون عمل عسكري. إن اختيار السيناريو الثاني يجسّد إدراك تل أبيب العسكري لمخاطر التداعيات الإقليمية والعالمية، كما نُفذ هذا القرار بتنسيق استخباراتي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية لزيادة دقة العمليات، وتقليص هامش الخطأ البشري إلى أدنى حد.
في الوقت نفسه، لفتت “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” الأنظار إلى أن الكيان الصهيوني، بالتزامن مع الغارات الجوية، نسج خيوط حرب نفسية وإعلامية. وكان بثّ صور للاستهداف الدقيق للمنشآت وعرض القدرة على اعتراض الهجمات الإيرانية، جزءاً من استراتيجية الردع النفسي.
كان المبتغى من هذا الإجراء إيصال رسالة إلى طهران والرأي العام الإقليمي، مفادها بأن أي تقدم إيراني في البرنامج النووي سيواجه برد سريع ومدروس، كما هدف الكيان الصهيوني، من خلال استراتيجية الضربة المحدودة والهادفة والمضبوطة، إلى إحداث اضطراب في البرنامج النووي الإيراني، مع ضبط إيقاع التوتر ومنع تمدد الحرب إلى المستوى الإقليمي.
کتب “معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية” في تحليله: كانت الحرب الاثني عشرية بين إيران و"إسرائيل" حدثاً استراتيجياً ذا تداعيات إقليمية ودولية واسعة، في هذه المواجهة، حطّم الطرفان الأطواق المحرمة: "إسرائيل" بمهاجمة أهداف في عمق الأراضي الإيرانية، وإيران بمهاجمة قاعدة العديد الأمريكية في قطر. من جهة أخرى، أجبرت هجمات "إسرائيل" طهران على إعادة صياغة معادلة الرد.
ردّ طهران واستراتيجياتها العسكرية
جاء رد إيران على هجمات الكيان المحتل كاشفاً عن قدرتها واستراتيجيتها الرادعة. وكما حللت مؤسستا “الدفاع عن الديمقراطيات وراند”، تبنت طهران منذ اليوم الأول نهجاً متعدد المستويات شمل إطلاق صواريخ باليستية، ومسيرات انتحارية، وحرباً سيبرانيةً.
کشف هذا الرد أن إيران لا تنوي فقط مجابهة الهجمات، بل ترغب في توجيه رسالة جلية إلى الكيان الصهيوني والقوى العالمية، بأن أي عمل عسكري ضدها سيكبّد المعتدي ثمناً باهظاً.
نوّهت “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” في تقريرها إلى أن جهود إيران تركزت على تعطيل منظومات الدفاع الصهيونية. فمن خلال إطلاق الصواريخ والمسيرات في آن واحد، سعت طهران إلى إنهاك القبة الحديدية وأنظمة الاعتراض الإسرائيلية الأخرى، ونجح عدد من الصواريخ والمسيرات في اختراق الدفاعات وإصابة الأهداف المقصودة.
أطلقت طهران عشرات الصواريخ الباليستية متوسطة المدى والمسيرات الانتحارية، مستهدفةً ليس فقط مواقع عسكرية في الأراضي المحتلة، بل نجحت أيضاً في زعزعة الرأي العام ومسؤولي تل أبيب. حتى الهجمات المحدودة التي أصابت الأهداف، بعثت برسالة ردع بليغة إلى "إسرائيل" والقوى العالمية مفادها بأن إيران قادرة على توجيه رد متكافئ فعال ومكلف للهجمات الخارجية.
وتلفت هذه المؤسسة الفكرية أيضاً إلى دور الحرب النفسية والإعلامية الإيرانية. فنشر صور المسيرات والصواريخ التي أُطلقت، وتقديم معلومات مقتضبة عن الأضرار الداخلية، مع إبراز ثغرات الدفاعات الصهيونية، كانت جميعها أوراقاً في استراتيجية إيران لتوجيه بوصلة الرأي العام الداخلي وممارسة الضغط النفسي على العدو، وقد أفضت هذه التكتيكات إلى آثار نفسية عميقة على المجتمع الصهيوني رغم قصر أمد الحرب. كما برهنت الصواريخ متوسطة المدى مثل “قدر” و"سجيل" والمسيرات الانتحارية مثل “شاهد” و"مهاجر"، أن إيران تملك القدرة على اختراق أنظمة الدفاع الإسرائيلية المتطورة.
ووفقاً لمؤسسة راند، لا تزال إيران تمتلك عدة أوراق في جعبتها. فرغم تضرر أذرعها بالوكالة، لا تزال طهران قادرةً إلى حد ما على تحريك هذه المجموعات، والأهم من ذلك، تمتلك إيران ترسانةً ضخمةً تضمّ آلاف الصواريخ القادرة على دكّ أهداف داخل "إسرائيل"، علاوةً على ذلك، تحتفظ إيران بأدوات غير متماثلة أخرى مثل الهجمات السيبرانية.
استمرار الحرب كان سيلحق الضرر بالكيان الصهيوني
أشارت مؤسسة راند في تقريرها إلى القدرات العسكرية الإيرانية، وكتبت: رغم أن استمرار الحملة الجوية كان يمكن أن يمنح "إسرائيل" فرصةً لاستهداف المزيد من القدرات الصاروخية الإيرانية وحتى قادتها البارزين، إلا أنه كان ينبغي موازنة المزايا العملياتية لهذا الإجراء مع التكاليف المحتملة، فعلى الرغم من تدمير جزء من منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، نجحت طهران في إزهاق أرواح أكثر من 30 إسرائيلياً، وإيقاع أكثر من 3 آلاف جريح، وإلحاق أضرار بقيمة 3 مليارات دولار بـ "إسرائيل".
تمكنت "إسرائيل" بمزيج من المهارة والحظ من الحفاظ على طياريها أثناء التحليق فوق سماء إيران، بيد أن استمرار الهجمات كان سيستنفد هذا الحظ عاجلاً أم آجلاً، وكانت إيران ستظفر بنصر في هذا المضمار.
کتب محللو المجلس الأطلسي في تقريرهم: رغم الانتصارات التي حققتها، تجرعت تل أبيب ضربات وخسائر جسيمة من الصواريخ الباليستية الإيرانية التي نالت من دفاعاتها الجوية، يتعين على قادة تل أبيب اغتنام هذه اللحظة للتوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار واتفاق لتحرير الأسرى في غزة، وهذا الإجراء كفيل بإعادة المنطقة إلى مسار التقارب.
الانتقال من حرب الظل إلى المواجهة المحدودة
وصفت مؤسسة راند الحرب الاثني عشرية بأنها “انتقال من الحروب بالوكالة وحروب الظل إلى المواجهة المباشرة والمحدودة”، يرى محللو راند أنه على مدى سنوات، انخرطت إيران والكيان الصهيوني في حروب خفية، إيران من خلال أذرعها في لبنان واليمن، و"إسرائيل" من خلال العمليات السيبرانية والضربات الجوية المحدودة في سوريا والعراق، بيد أن حرب الاثني عشر يوماً كشفت أن الطرفين يملكان مقاليد إدارة الصراع بشكل محدود ومباشر، وأن كليهما قادر على توجيه ضربات دقيقة وموجعة في أقصر وقت.
تؤكد راند أن تل أبيب سعت من خلال الضربات الجوية الدقيقة، إلى تأجيل التهديد النووي الإيراني، هذا النهج، على خلاف السيناريوهات السابقة، يعكس تحولاً في فلسفة الردع. كما حاولت إيران، عبر توظيف الصواريخ والمسيرات، رفع كلفة المواجهة وإرسال رسالة نفسية قوية إلى "إسرائيل" والمجتمع الدولي، تعتبر راند هذه الحرب الخاطفة بمثابة اختبار حقيقي لقدرات الردع لدى الطرفين.
نجاعة الغارات على المنشآت النووية: تساؤلات الفاعلية وجدلية التأثير
تتباين رؤی المؤسسات الفكرية الغربية في تقويم نجاعة الهجمات الصهيونية التي استهدفت دك المنشآت النووية الإيرانية، فقد کتبت مؤسسة “راند” في طروحاتها حول مدى تضرر المفاعلات النووية الإيرانية إثر الغارات الصهيونية: “إن مقياس قدرة الكيان على إرجاء البرنامج النووي الإيراني، يعتمد على جسامة الأضرار التي ألحقها بالمنشآت المحصنة في أعماق الأرض، وغالباً ما يُغفل في ساحات الجدل أن ثمة بوناً شاسعاً بين تخصيب اليورانيوم وصناعة القنبلة النووية".
وأكدت “راند” بقولها: “كانت إيران تحتاج إلى بضعة أسابيع فحسب لبلوغ اليورانيوم المستوى التسليحي، بيد أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية قدّرت على مدار عقود أن طهران لم تكن بصدد صنع قنبلة، وأنها لا تزال بحاجة إلى أبحاث تسليحية، والآن، يتعين افتراض أن إيران ربما عدلت عن هذا القرار وستسعى بنشاط حثيث نحو تصنيع قنبلة".
من المرجح أن غارات الكيان الصهيوني وتصاعد المواجهات، ستُذكي جذوة الدافع الإيراني لامتلاك سلاح نووي، فقد نالت الأضرار من بعض المنشآت النووية الإيرانية واستُهدِف نفر من العلماء النوويين، لكن المواقع المتحصنة في بطن الأرض ظلت بمنأى عن الضرر، وإيران تمتلك معرفةً نوويةً کبيرةً.
ويرى المجلس الأطلسي أيضاً: “حتى بعد غارات الولايات المتحدة على منشآت فوردو، يظل السؤال قائماً عما إذا كانت إيران قد أخرجت كميةً وافرةً من اليورانيوم عالي التخصيب من المنشآت قبل استهدافها. إذا فعلت ذلك، فهي تحتاج فقط إلى بضع مئات من أجهزة الطرد المركزي المتطورة ومخزن ضئيل من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60% للوصول إلى المستوى التسليحي، لذلك، لا يزال الحل الدبلوماسي طويل الأمد الذي يشمل أي برنامج نووي إيراني مستقبلي، ضرورةً لا محيد عنها، وإلا، قد تتكرر غارات أمريكية أو إسرائيلية في الأشهر القادمة لدرء السيناريو الذي أفضى إلى اندلاع هذه الحرب - استحواذ إيران على سلاح نووي".
رسوخ أركان الجمهورية الإسلامية وثبات دعائمها
رغم أن قادة الكيان الصهيوني توهموا أن اغتيال كبار القادة الإيرانيين قد يُطيح بصرح الجمهورية الإسلامية، إلا أن المراكز الفكرية الغربية ترى أن أبرز تداعيات ما بعد الحرب، كان بقاء الثورة الإسلامية وترسيخ أركانها، کتبت “مؤسسة الدراسات الدولية والاستراتيجية” في هذا الصدد: “رغم سقوط 30 قائداً و19 عالماً نووياً في الغارات الإسرائيلية، إلا أن القيادات الدينية البارزة التي تجسّد مُثُل الثورة الإسلامية أكثر من المسؤولين والقادة، لا تزال حاضرةً في المشهد، وبقاؤها يشهد على الحفاظ على جوهر الجمهورية الإسلامية حتى لو تقلصت قدرتها التنفيذية".
من ناحية أخرى، لم تُحدث هذه الهجمات صدوعاً جسيمةً في نسيج النظام الإيراني، ولم تُنفَّذ أي خطة بديلة ذات مصداقية، ولم تتبلور معارضة واسعة النطاق في الساحة الإيرانية.
وفق رؤية هذه المؤسسة الفكرية، ربما جنى قادة إيران من الحرب ثماراً غير متوقعة، إذ إن المفارقة التاريخية للقصف الجوي هي أنه رغم إضعاف قدرات العدو، فإنه قد يشحذ عزيمته في المقابل، فقد استشعر الشعب الإيراني خلال الحرب روح القومية المتأججة، وسارع قادة طهران إلى الإعلان عن هذا الشعور كعلامة على الوحدة الوطنية المتماسكة.
الردع التكتيكي والتداعيات الدبلوماسية
تعتبر مؤسسة بروكينجز الحرب الاثني عشرية بين إيران والكيان المحتل نموذجاً ساطعاً لـ “الردع التكتيكي”، حيث سعى الطرفان إلى تحقيق غاياتهما الاستراتيجية دون الانزلاق إلى أتون حرب واسعة النطاق. وفق محللي بروكينجز، ابتغت تل أبيب من خلال هجماتها الدقيقة على المراكز النووية الإيرانية وقف مسار البرنامج النووي لطهران، ودفع إيران عبر الضغط النفسي إلى إعادة النظر في سياساتها النووية، يعكس هذا النهج، مع التركيز على الدقة العملياتية وتقليص الخسائر المدنية، تحولاً في استراتيجية الكيان الصهيوني مقارنةً بالهجمات التقليدية الشاملة والمكثفة.
من جهة أخرى، تؤكد بروكينجز أن إيران أظهرت ردها المتكافئ بحساب دقيق، فإطلاق الصواريخ متوسطة المدى واستخدام المسيّرات الانتحارية إلى جانب العمليات المحدودة بالوكالة، برهن أن طهران تمتلك القدرة على تكبيد "إسرائيل" خسائر فادحة دون أن تعرّض نفسها لتهديد شامل.
أحد الأبعاد المهمة الأخرى في تحليل بروكينجز، هو دور الدبلوماسية والضغط الدولي، فقد سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى بعض القوى الآسيوية، من خلال التحذيرات العاجلة والضغوط السياسية، إلى احتواء نطاق الحرب ومنع استحالتها إلى أزمة إقليمية، يقول محللو هذه المؤسسة إنه لولا هذه الضغوط الدبلوماسية، لكان احتمال امتداد لهيب الحرب إلى لبنان وسوريا وحتى الخليج الفارسي سيتعاظم، وترتفع التكاليف الاقتصادية والبشرية بشكل هائل.
في رأي محللي بروكينجز، تمثّل الحرب الاثني عشرية نموذجاً للمواجهات المستقبلية - حروب قصيرة، دقيقة، مع إدارة للأزمات، حيث يسعى الطرفان إلى تحقيق مآربهما الاستراتيجية باستخدام القوة العسكرية والسيبرانية والإعلامية، مع السعي في الوقت نفسه إلى تجنب اندلاع حرب طويلة ومدمرة، وتُبرز هذه التجربة أهمية دور الدبلوماسية الدولية والتعاون الاستخباراتي والسيطرة على التداعيات النفسية أكثر من أي وقت مضى.
تقويم أداء منظومات الدفاع الجوي الأمريكية-الإسرائيلية
يؤكد مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية على أن نجاح الكيان الصهيوني في مجابهة الهجمات الصاروخية الإيرانية، هو ثمرة سنوات من الاستثمار في أنظمة الدفاع الجوي والتعاون التقني مع الولايات المتحدة، استطاعت القبة الحديدية ومقلاع داوود وأنظمة أرو-2 وأرو-3، اعتراض أكثر من 80% من الصواريخ والمسيّرات التي أطلقتها إيران، ويعكس هذا المستوى من الدفاع النضج التقني والخبرة العملياتية للجيش الإسرائيلي، ويبرز الدور الحيوي للدعم الأمريكي.
كما تشدد هذه المؤسسة الفكرية على أهمية التنسيق الاستخباراتي بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، إذ كان التنبؤ بمسار إطلاق الصواريخ وتحديد المسيّرات الإيرانية شبه مستحيل من دون البيانات الاستخباراتية الأمريكية. لم يكن هذا التعاون فعالاً فقط في اعتراض التهديدات، بل أتاح لتل أبيب تصميم ردها بشكل دقيق ومحدود، وبالتالي، أضحى التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني خلال الحرب الاثني عشرية، نموذجاً محتملاً لمستقبل غرب آسيا، يمكن أن يكون إنشاء شبكات استخباراتية ودفاعية مشتركة ناجعاً في مواجهة التهديدات المستقبلية، وخاصةً من جانب إيران والمجموعات التي تعمل بالوكالة عنها، ومن دون استمرار هذا التعاون وتحسين أنظمة الدفاع، ستظل المنطقة محفوفةً بالمخاطر.
ورغم مزاعم “راند” بنجاح أنظمة الدفاع الجوي لتل أبيب وواشنطن، شككت بعض المراكز الفكرية الغربية في هذا التحليل. في هذا السياق، أشارت “ناشيونال إنترست” في تحليلها إلى القوة الصاروخية الإيرانية وضعف وقصور أنظمة الدفاع الجوي للكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وكتبت: “كشفت الحرب الاثني عشرية أن واشنطن كان يجب أن تدرك منذ أمد بعيد أن بنية الدفاع الجوي والصاروخي للجيش الأمريكي، غير مهيأة لحرب طويلة مع عدو ذي بأس شديد".
وأكدت ناشيونال إنترست، مشيرةً إلى أن الجيش الأمريكي يتخلّف عن الركب ويتعين عليه تغيير مساره قريباً: “خلال 12 يوماً من الحرب بين إسرائيل وإيران، تم إطلاق أكثر من 150 صاروخ اعتراضي من نوع ثاد لمواجهة الصواريخ الباليستية الإيرانية الأكثر تطوراً، هذا الرقم يتجاوز ثلاثة أضعاف المتوسط السنوي لشراء حوالي 40 صاروخ اعتراضي منذ عام 2010، ومع سعر 15.5 مليون دولار لكل صاروخ اعتراضي، فإن هذا المسار ليس ملائماً للقوات المسلحة، حتى لو زادت وزارة الدفاع الطلبات الحالية إلى أكثر من 12 صاروخاً اعتراضياً القليلة في ميزانية 2025، سيستغرق الأمر ثلاث سنوات من تاريخ توقيع العقد حتى تسليم الصواريخ الاعتراضية".
التداعيات الجيوسياسية ومستقبل المنطقة
ركزت مؤسسات “مجلس العلاقات الخارجية وكارنيجي والمجلس الأطلسي” على التداعيات الجيوسياسية للحرب الاثني عشرية بين إيران والكيان الصهيوني، واعتبرتها حدثاً ذا تأثيرات طويلة الأمد على الأمن الإقليمي والعالمي.
أكد مجلس العلاقات الخارجية أن الحرب القصيرة لكن الحادة كان لها تداعيات اقتصادية عالمية. فارتفاع أسعار النفط، واضطراب سلسلة إمدادات الطاقة، والضغط على الأسواق المالية العالمية، أظهرت أنه حتى الحرب المحدودة يمكن أن يكون لها آثار اقتصادية وسياسية تتجاوز نطاق المنطقة، وحذّر محللو هذه المؤسسة من أن استمرار مثل هذه الصراعات دون آليات رادعة، يمكن أن يهدد الاستقرار الاقتصادي وأمن الطاقة العالمي.
كما ركزت مؤسسة كارنيجي على البعد الدبلوماسي للحرب. تعتقد هذه المؤسسة أن الولايات المتحدة وأوروبا وبعض دول المنطقة، تمكنت من خلال الوساطة بين الأطراف من احتواء رقعة الحرب. ومع ذلك، تحذّر كارنيجي من أنه دون خطط شاملة ومزيج من الضغط والحوافز الاقتصادية، فإن احتمال تكرار المواجهات القصيرة والباهظة الثمن في غرب آسيا مرتفع للغاية، ويعدّ إيجاد منصة دبلوماسية للحوارات غير المباشرة وتخفيف التوترات الإقليمية، من أهم الدروس المستقاة من هذه الحرب.
انتقاد المراكز الفكرية الأوروبية لمواقف الغرب
بينما تدافع المراكز الفكرية الأمريكية بنهج أحادي الجانب عن هجمات الكيان الصهيوني على إيران، تسعى المراكز الفكرية الأوروبية إلى إبراز أن المواقف الخاطئة للغربيين، دفعت الصهاينة إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات.
بحثت مؤسسة “كلينجندال” الهولندية، في تقرير بعنوان “رد الاتحاد الأوروبي على هجوم إسرائيل على إيران: مبرر، منافق وأجوف”، دعم الدول الأوروبية لهجمات الكيان الصهيوني على إيران. تشير هذه المؤسسة إلى أن دعم أوروبا لهذه الهجمات، قد يؤدي إلى إضعاف موقفها في المفاوضات النووية مع إيران، ويعرض مصالح أوروبا الأمنية للخطر في المستقبل، كما أن مثل هذا الدعم قد يفضي إلى تفاقم عدم الاستقرار في المنطقة وتهديد المصالح الأوروبية.
علاوةً على ذلك، فإن الدول الأوروبية الرئيسية، بانحيازها إلى الكيان الصهيوني والولايات المتحدة دون امتلاك نفوذ ذي مغزى على إيران، تفتقر الآن إلى استراتيجية ملائمة لمنع انتشار الأسلحة النووية، بما في ذلك تهديدات إعادة فرض العقوبات، وذلك في الوقت الذي زادت فيه هجمات "إسرائيل" والولايات المتحدة من خطر تطوير إيران للأسلحة النووية.
من وجهة نظر محللي هذه المؤسسة، غالباً ما امتنعت أوروبا في السنوات الماضية عن الاعتراف بحق إيران في الدفاع عن نفسها، حتى في حالات مثل الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال العلماء الإيرانيين، والهجمات الأخيرة الإسرائيلية والأمريكية التي لم تكن لها مسوغات وفقاً للقانون الدولي، في الوقت نفسه، تعترف الدول الأوروبية بحق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها حتى عندما لا تملك مثل هذا الحق، لكنها لا تقرّ نفس الحق لإيران حتى عندما تتمتع إيران فعلاً بهذا الحق.
كتبت مؤسسة “European Leadership Network” التي تتخذ من لندن مقراً لها، في تقرير: “هاجمت إسرائيل رموز قوة النظام بهدف إضعاف صورة الردع الإيراني، شملت هذه الرموز سجن إيفين ومرافق هيئة الإذاعة والتلفزيون. كان هدف إسرائيل هو أن يؤدي ضعف إيران في مواجهة القدرة العسكرية الإسرائيلية، إلى احتجاجات داخلية وتقليص شرعية النظام، لكن هذا لم يتحقق”.
كما كتبت هذه المؤسسة الفكرية حول السياسة التي ستتبعها إيران والكيان الصهيوني بعد الحرب: "تعتزم إسرائيل مراقبة البرنامج النووي ومعرفة ما إذا كانت إيران ستقرر إعادة بنائه أم لا، من المرجح أن يتركز الاهتمام الاستخباراتي الخاص لإسرائيل على المواقع النووية الإيرانية، خاصةً مواقع التخصيب الرئيسية في فوردو ونطنز، كما سيكون موقع أصفهان محط اهتمام بسبب تطوير القدرة على تحويل اليورانيوم المخصب إلى شكل معدني صلب، وهو أمر ضروري لإنتاج الأسلحة النووية.
كذلك، سيظل برنامج الصواريخ الإيراني محوراً رئيسياً لجمع المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية. أظهرت التقارير أن الصواريخ التي أصابت الأهداف كانت دقيقةً وقادرةً على إلحاق أضرار جسيمة، ستواصل "إسرائيل" أيضاً رصد منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، لأنها تلعب دوراً محورياً في القدرة الصاروخية لإيران. وبينما تركز استخبارات "إسرائيل" على البرامج النووية والصاروخية الإيرانية، ستكون جميع فروع الجيش الإسرائيلي متأهبةً للمرحلة التالية من الحرب، ومن المرجح أن تحفز أي علامة على إعادة بناء البرنامج النووي أو الصاروخي الإيراني، صناع القرار في تل أبيب على إصدار أمر بالهجوم التالي على أهداف إيرانية".
توصيات للولايات المتحدة وحلفائها
تظهر خلاصة المراكز الفكرية الأمريكية والأوروبية أن الحرب الاثني عشرية بين إيران والكيان الصهيوني، رغم قصر أمدها، خلّفت تداعيات واسعة على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والنفسية.
أوصى مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية بأن على الولايات المتحدة توسيع تعاونها الدفاعي والاستخباراتي مع الكيان الصهيوني والدول الخليجية، فإنشاء شبكات استخباراتية مشتركة، وتعزيز أنظمة الدفاع الجوي، وإدارة الأزمات في المنطقة، يمكن أن يحول دون انتشار الصراعات ويعزز القدرة الرادعة.
كما اقترحت مؤسسة “هدسون” أن على الولايات المتحدة وحلفائها استخدام الأساليب الدبلوماسية والحوافز الاقتصادية أيضاً، فالتفاوض غير المباشر مع إيران، وتقديم حوافز اقتصادية محدودة، والدبلوماسية النشطة يمكن أن تحول دون تكرار الحروب القصيرة والباهظة الثمن.
من منظور “مجلس العلاقات الخارجية والمجلس الأطلسي”، أوضحت تجربة الحرب الاثني عشرية أهمية إنشاء هندسة أمنية إقليمية، فالتقارب الأمني بين "إسرائيل" والدول الخليجية مع التعاون الاستخباراتي والدفاعي، يمكن أن يفضي إلى ردع جماعي ويعزز دور الولايات المتحدة كمنسق وداعم، من ناحية أخرى، يجب التوصل إلى اتفاق مع إيران يمنعها من تخصيب اليورانيوم، وفي المقابل، توفير إمكانية لرفع بعض العقوبات حتى يتمكن القادة الإيرانيون الملتزمون بتثبيت نظامهم من تقديم ذلك كانتصار لشعبهم.
كما أكد محللو بروكينجز أنه “بعد سنوات من انتقاد الحروب التي لا نهاية لها في غرب آسيا، تشكو الآن بعض الأصوات نفسها من الحرب الاثني عشرية. يظهر هذا الحاجة إلى إعادة تعلم منطق الحروب المحدودة، وقدراتها الحقيقية في تحقيق الأهداف، نادراً ما تقدّم مثل هذه الحروب حلولاً دائمةً، لكنها يمكن أن تشتري الوقت، وتغيّر ديناميكيات الجغرافيا السياسية، وتمهّد الطريق لحلول أكثر استدامةً".
في خاتمة المطاف، خلصت المراكز الفكرية الأمريكية والأوروبية إلى أن الحرب الاثني عشرية تحمل درساً جوهرياً للقوى الإقليمية والعالمية، وهو أنه حتى الصراعات القصيرة يمكن أن يكون لها تداعيات واسعة النطاق. ولإدارة مستقبل غرب آسيا، من الضروري المزج بين القوة العسكرية، والدبلوماسية النشطة، والتعاون الأمني، وإدارة الحلفاء بالوكالة. ويمكن لهذا الإطار أن يحول دون استحالة المواجهات المحدودة إلى حروب طويلة ومدمرة، ويخلق استقراراً نسبياً في المنطقة.