الوقت- في شهر أغسطس/آب 2025، دخلت العلاقات التجارية بين الهند والولايات المتحدة منعطفًا حادًا، فقد فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعريفات جمركية جديدة على صادرات الهند، بلغت في بعض القطاعات 50%، وهو من بين أعلى معدلات التعريفات المفروضة على أي شريك تجاري للولايات المتحدة، هذه الخطوة الهجومية، التي عزّزها ترامب بموقفه القوي من استمرار نيودلهي في شراء النفط من روسيا، وضعت الهند بين خيارين مرّين: إما التنازل لمطالب واشنطن، أو المواجهة باستخدام أدوات متعددة الأوجه، هنا تبرز الرؤية الهندية الثلاثية التي تسعى لكسر الحصار التعريفي، وضمان استمرار دينامية نموها الاقتصادي، وهي:
1. مواصلة التفاوض مع واشنطن دون التخلي عن خطوطه الحمراء الداخلية
2. إعادة توازن العلاقات مع الصين وروسيا، وتوطيدها ضمن حسابات استراتيجية محسوبة
3. تنويع العلاقات التجارية نحو شركاء بديلين وأوسع، بما يقلل الاعتماد المفرط على السوق الأمريكية
تصعيد التعريفات: استهداف أمريكي حاد لخنق صادرات الهند
في بداية أغسطس 2025، شرع ترامب في فرض تعريفات جمركية "تبادلية" بنسبة 25% على معظم الواردات من الهند، كخطوة أولى في تصعيد واسع، ثمّ أضاف، في تحوّل مفاجئ، تعريفة إضافية، ليصل المجموع إلى **50%** على بعض السلع الهندية، لا سيما بسبب استمرار الهند في شراء النفط الروسي رغم ضغوط واشنطن.
الوزير الأمريكي للسياسة التجارية بيتر نافارو صرّح بأن شراء الهند للنفط الروسي يموّل آلة الحرب الروسية، ودعا الدولة الآسيوية لإيقاف ذلك فورًا إن أرادت الحفاظ على ما تبقى من التفاهمات الاستراتيجية مع واشنطن.
المفاوضات التجارية بين الهند والولايات المتحدة انهارت بعد خمس جولات من النقاش، رغم أن نيودلهي قدّم عروضًا كبيرة، مثل إلغاء الرسوم الجمركية على 55% من الواردات الأمريكية، وزيادة مشترواتها في مجالات الطاقة والدفاعإلا أن الخلاف حول قطاعات الزراعة والألبان حسم الموقف لمصلحة الطرف الأمريكي.
نتج عن ذلك إعلان انقلاب “تفاوضي” واضح: ترامب أعلن أن لا محادثات جديدة مع الهند حتى يتم حل هذه الأزمة الجمركية ما غيّر البيئة السياسية والاقتصادية تمامًا.
ردود فعل الهند: سياسة "ثلاثية الأذرع" في مواجهة التحدي
1. المواجهة الذكية مع واشنطن: تفاوض دون تنازل عن السيادة
رغم الضغوط الخارجية، أكدت نيودلهي أن التعريفات الأمريكية بـ 50% "غير عادلة وغير مبررة" ووجّهت رسالة قوية بأن سياسة النفط تعتمد على أمن الطاقة لـ1.4 مليار شخص، وليس لخدمة أجندات خارجية
وحتى في ظل الأزمة، حافظت الهند على توازن داخلي سياسي؛ إذ حرص رئيس الوزراء ناريندرا مودي على عدم التضحية بمصالح المزارعين أو قطاع الألبان، معتبرًا أن الركون إلى التراجع سيكون "انتحارًا سياسيًا" لم يمرره ناخبوه.
في الوقت نفسه، بازار السندات والأسواق الهندية استقبلت عدّة مقترحات حكومية لتحفيز الاستهلاك، بما في ذلك تبسيط الضرائب (بطبقتين فقط 5% و18% بدلًا من 12% و28%) لجذب الاستثمار وامتصاص الصدمة الناجمة عن التوتر التجاري
2. لعب على أكثر من طاولة: تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا بحذر
على الرغم من التوترات الحدودية العميقة مع الصين، والتي بلغ ذروتها في صراع وادي جالوان عام 2020، فإن الهند أعادت فتح قنوات دبلوماسية سياسية: زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى نيودلهي بعد أكثر من ثلاث سنوات، واستعدادات لمواجهة ميدانية دبلوماسية، بما في ذلك إعادة فتح الرحلات الجوية والزيارات المتبادلة والتمهيد لزيارة مودي إلى بكين.
لكن هذا التقارب لا يخلو من تحفظات: الصين تسعى إلى حماية التقنية وعدم تعريض مصالحها الأمنية، ما أدى إلى تأخيرات في الموافقة على صفقات مشتركة، وأجلت شركات مثل Haier وPG Electroplast إبرام شراكات.
فيما يخص روسيا، تم تعزيز العلاقات الدفاعية والتكنولوجية والاقتصادية، وخصوصًا في قطاع الطاقة؛ الهند مستمرة في شراء النفط الروسي ضمن سقف السعر المسموح على مستوى مجموعة السبع، كرسالة مقاومة لطموحات ترامب
3. تنويع الشركاء: نحو اتفاقات جديدة لحماية الاقتصاد
أمام اختناق السوق الأمريكية، وجدّت الهند نفسها أمام ضرورة توسيع دائرة شركائها الاقتصاديين، في هذا السياق:
اتفاقية التجارة مع المملكة المتحدة: وقعت اتفاقية اقتصادية شاملة في يوليو 2025، تهدف لمضاعفة التجارة الثنائية إلى 120 مليار دولار بحلول 2030، تشمل القطاعات الصناعية والخدمات وحقوق الملكية.
تفعيل اتفاقيات حرة أخرى: تعاون مع دول مثل الإمارات وأستراليا، بالإضافة إلى مفاوضات جارية مع الاتحاد الأوروبي، جنوب شرق آسيا (آسيان)، نيوزيلندا، بيرو، عمان، تشيلي، وأفريقيا الجنوبية
آليات الجذب العالمي: مبادرة "PLI" (حوافز مدعومة للإنتاج) جذبت شركات كبرى مثل Apple وSamsung وFoxconn، ما أدى إلى ارتفاع صادرات الإلكترونيات 22% في عام 2024، كذلك، مشروع أشباه الموصلات بقيمة 10 مليار دولار يعد ببث إنتاج داخلي بحلول 2026
العالم الجنوبي وشراكات الجنوب–الجنوب: إطلاق دراسات مع البرازيل لتوسيع اتفاقية Mercosur، إضافة إلى زيادة التبادل مع أفريقيا في قطاعات الأدوية الثقيلة وقطع غيار السيارات والإنتاج الزراعي.
تحليل التأثيرات والسيناريوهات المستقبلية
التكاليف الاقتصادية الفورية والمتوسطة
يتوقع بنك جولدمان ساكس أن تعرّض التعريفات الجديدة النمو الاقتصادي الهندي إلى تراجع بنسبة 0.3%، وقد يصل ذلك إلى 0.6% إذا تم تطبيق التعريفات الثانوية.
وحذر الحاكم الهندي السابق، دوبوري سوبّاراو، من تداعيات كارثية قد تصل إلى تأثير بقيمة 7 تريليونات دولار إذا طُبقت تعريفة بنسبة 50% بالكامل، إضافة إلى مخاطر الإغراق بالسلع الصينية على الصناعة المحلية.
فرص إعادة الهيكلة: تحويل الأزمة إلى قوة
توظيف السياسة الصناعية لتقليص الاعتماد على الخارج، خصوصًا في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والأدوية والإلكترونيات، يعطي أبعادًا لإعادة بناء سلاسل التوريد الوطنية.
استراتيجية الانفتاح على الأسواق الناشئة مثل جنوب شرق آسيا وأفريقيا تساعد في خلق شبكات تصدير بديلة لمواجهة أي تعطّل في السوق الأميركية.
جوانب السياسة الخارجية: احتمالات وتحديات
جمود المفاوضات مع واشنطن لا يعني تفكك التعاون الاستراتيجي؛ الهنود لا يزالون يفضلون الانفتاح على الحوار، ولكن بشروط تحفظ مصداقيتهم السياسية محليًا.
الانفتاح نحو الصين وروسيا يعيد تشكيل خطوط القوى في آسيا، وقد يمثل هندًا اشتراكيًا للغرب بصفتها قوة مركزية أكثر تعددية.
فتح أبواب تجارية جديدة يضع الهند في موقع تنافسي أكبر عالميًا، ويشير إلى نهوض اقتصادي يراهن على تنويع مصادر النمو وليس تبعية سوق وحيدًا.
الهند اليوم تقف عند مفترق طرق بين نزعة الانضواء تحت ضغط التعريفات الأمريكية أو الانطلاق بمزيد من التنوع والاعتماد على الذات.
استراتيجيتها الثلاثية—التفاوض المدروس، والتوازن الجيوإقليمي، وتوسيع العلاقات التجارية— تشكل نموذجًا للتحوّل الاستراتيجي في مواجهة أزمة غير مسبوقة.
في مزيج ديناميكي بين المقاومة والدبلوماسية الاقتصادية، تحوّلت الأزمة إلى محفز داخلي للتحديث الهيكلي، وإعادة هندسة علاقاتها الدولية، في مسعى حثيث للتموقع كقوة كبرى مستقلة ومتوازنة على المسرح العالمي.
