الوقت- بادرت حكومة جوزيف عون، التي تستظل بمظلّة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والدول الغربية، إلى إقرار مخطط نزع سلاح حزب الله، متجاهلةً صوت الحكمة والتاريخ.
وأماط بول مرقص، وزير الإعلام اللبناني، اللثام مساء الخميس الماضي عن موافقة حكومة بلاده على أهداف الوثيقة الأمريكية الساعية إلى “المضي قدماً نحو حل شامل ومستدام”، مشدداً على أن مجلس الوزراء اللبناني أقرّ حصر السلاح بيد الدولة وانتشار الجيش في الجنوب.
وأفادت شبكة الجزيرة الإخبارية أن رئيس الجمهورية اللبناني حاول استمالة وزراء الحركتين الشيعيتين، أمل وحزب الله، للبقاء في الجلسة، بيد أن مساعيه باءت بالإخفاق، فغادر أربعة وزراء من التيار الشيعي قاعة المداولات.
وأكد وزراء أمل وحزب الله، رافضين بحزم مناقشة الوثيقة الأمريكية كاتفاق، على ضرورة إرجاء أي تصريح بشأن سلاح حزب الله، إلى حين جلاء قوات الكيان الصهيوني عن الأراضي اللبنانية، ووقف غاراته العدوانية، والشروع في إعادة إعمار ما خلّفته الحرب من دمار.
إن قضية نزع سلاح حزب الله اللبناني، التي تضرب بجذورها في عمق المشهد الداخلي للبلاد، ليست مسألةً يسيرةً أحادية الأبعاد، بل هي شائكة متشعّبة الجوانب، والإجابة عنها تستدعي تمحيصاً دقيقاً للعوامل السياسية والعسكرية والإقليمية والدولية المتشابكة في نسيج معقّد.
حزب الله: القوة العسكرية الأولى في لبنان
تتصدر المشهد اللبناني قوة حزب الله العسكرية الضاربة، التي لا يضاهيها أي تيار أو مؤسسة في لبنان من حيث القدرات القتالية واتساع رقعة التشكيلات.
يمتلك حزب الله ترسانةً وافرةً من الأسلحة الخفيفة وشتى أصناف الصواريخ المتطورة، فضلاً عن أسطول من الطائرات المسيّرة يحلّق في سماء المعركة. ويتمتع هذا الحزب بقدرة إطلاق القذائف الصاروخية من منصات ثابتة ومتحركة بتحكم عن بُعد، مما يجعله أشدّ صلابةً في مواجهة الهجمات المضادة.
برهن حزب الله في حرب لبنان الأولى (1982) ضد الكيان الصهيوني، وحرب الثلاثة والثلاثين يوماً (2006)، وكذلك حرب (2024) مع الكيان، على قدرته الفذّة في مقارعة جيشٍ مدجّج بأحدث العتاد، وقد عكف منذ انطفاء أوار الحرب الأخيرة على تعزيز ترسانته وتجديد عدته وعتاده.
تفتقر الدولة اللبنانية، التي طالما حُرمت من جيشٍ قوي بفعل تدخلات الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، لصالح أمن الصهاينة وحدود فلسطين المحتلة الشمالية، إلى أدوات عسكرية ناجعة وكفؤة لمجابهة حزب الله اللبناني. ومن هذا المنطلق، يرى ثلة من الخبراء والمحللين أن تنفيذ خطة نزع سلاح حزب الله من قبل حكومة جوزيف عون، ضرب من المحال وسعي وراء سراب.
إلى جانب هذه المعضلة، يُعد النفوذ الإقليمي والدعم الواسع لهذا الحزب من قبل فصائل وأطراف محور المقاومة الأخرى في المنطقة، عنصراً جوهرياً آخر في القوة المادية لحزب الله وشوكته الضاربة.
وعليه، يرى صفوة السياسيين في هذا البلد أن إجراء حكومة جوزيف عون ضد حزب الله اللبناني، ليس سوى مسرحية هزلية أقرب إلى الاستعراض منه إلى الفعل الجاد.
المكانة السياسية والنفوذ الواسع للمقاومة في لبنان
المسألة الأخرى التي تميّز موقع حزب الله في لبنان عن سائر التيارات هي احتضان الجماهير له، إذ يحظى بقاعدة شعبية راسخة بين المجتمع الشيعي اللبناني وشرائح واسعة من النسيج اللبناني المتنوع، ويُعرف بأنه رمز المقاومة في وجه "إسرائيل" واحتلالها الغاشم، وهي حقيقة تاريخية نُقشت في ذاكرة شعب لبنان بحروف من نور لن تمحوها الأيام.
كما يتمتع هذا الحزب بنفوذ وازن في البرلمان اللبناني وفي نسيج البنية السياسية لهذا البلد، بحيث يستعصي على أي تيار سياسي تجاهله أو القفز فوق حضوره الطاغي. يضطلع حزب الله اللبناني، بالتزامن مع أنشطته العسكرية والأمنية، بدور فاعل ومؤثر كلاعب سياسي محوري في مسرح الأحداث السياسية.
من جهة أخرى، في حين ترتهن حكومة وسياسيو هذا البلد اقتصادياً للمساعدات الخارجية، بما فيها الأمريكية، وقصرت أيديهم عن تقديم الخدمات الضرورية لأبناء هذا الوطن الجريح، عزّز حزب الله قاعدته وتأييده الشعبي يوماً إثر يوم من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية (مثل مؤسسة القرض الحسن) وتلبية احتياجات الناس، وكذلك إجراءات مثل إعادة إعمار المناطق التي مزقتها الحرب وأثخنتها الجراح.
حتى بعض اللبنانيين الذين لا تستهويهم أيديولوجية حزب الله، يرون في سلاحه درعاً واقياً وسيفاً بتاراً في وجه العدوان الإسرائيلي المتربص.
ومن أجلى الشواهد على هذه الحقيقة، الفوز الكاسح الذي حققته المقاومة اللبنانية في انتخابات البلديات في يونيو، حيث أظهر شعب لبنان، ولا سيما أبناء الطائفة الشيعية، بتوافدهم الكثيف على صناديق الاقتراع، ولاءهم المطلق لخيار المقاومة ونهجها القويم.
وتجدر الإشارة إلى أن البنية الطائفية المتجذّرة في لبنان والنفوذ السياسي الراسخ لحزب الله في الوقت ذاته، يجعلان أي محاولة لنزع السلاح ضرباً من العبث والمكابرة في الوقت الراهن.
مخطط غربي – عربي لاستئصال شأفة المقاومة
تدفع مكانة حزب الله المرموقة ووضعه الراهن، الغرب وبعض دول المنطقة بقيادة الولايات المتحدة إلى نسج خطط عسكرية وأمنية، بما فيها إذكاء نار الفتنة الداخلية، بغية توجيه ضربة قاصمة للمقاومة اللبنانية.
وعليه، تشير التقييمات إلى أن إجراء حكومة جوزيف عون الأخير، في ظل دعم وتحريض الولايات المتحدة وسائر الدول الغربية ودول الخليج، ليس سوى مقدمة لاختلاق الذرائع الواهية لتنفيذ مشاريع أمنية وعسكرية داخل لبنان ضد المقاومة.
فعلى سبيل المثال، يعتقد آرون ميلر، المفاوض الأمريكي السابق، أن “نزع سلاح حزب الله مستحيل دون إشعال فتيل حرب أهلية في لبنان”، وأن إجراء حكومة جوزيف عون القاصر النظر في إقرار خطة نزع سلاح حزب الله، رغم أنه لن يلحق أدنى ضرر بالحزب، سيمهّد للولايات المتحدة والصهاينة سبيل إثارة الاضطرابات الداخلية، عبر عناصر مأجورة تبيع ضمائرها بثمن بخس.
رغم المؤامرة الجديدة التي يحيكها الغرب بقيادة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وأدواتهما المطيعة، بمن فيهم جوزيف عون، أثبت التاريخ أن حزب الله اللبناني، متسلحاً بقوته العسكرية ودعمه الشعبي العارم ومساندته الإقليمية الراسخة، كان دوماً قادراً على إحباط المؤامرات الداخلية والخارجية التي تُحاك ضده في الظلام. من حرب الثلاثة والثلاثين يوماً عام 2006 إلى الضغوط السياسية والعقوبات الدولية وحرب العام المنصرم، صمد هذا الفصيل في وجه أعدائه، متسلحاً بمرونة فائقة واستراتيجيات محكمة النسج.
وستواجه حكومة جوزيف عون، على غرار تجربة سعد الحريري في سالف الأيام، الذي عجز عن إضعاف حزب الله رغم الضغوط الخارجية والداخلية الهائلة، عقبات كأداء تحول دون تحقيق مآربها، وستنصرف في نهاية المطاف إلى شؤون أخرى خائبة الرجاء، مخذولة المسعى، دون أن تنجح في نزع سلاح المقاومة.
