الوقت - لقد تجاوزت أزمة الجوع في غزة حدود الكارثة، حتى أضحت مشهدًا مأساويًا يجلّ عن الوصف، وعبّرت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بشؤون فلسطين، عن أسفها البالغ إزاء ما يعانيه الفلسطينيون في القطاع، بسبب سياسات التجويع المتعمّد التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني، وقالت، في نبرةٍ مفعمةٍ بالحزن والوجع: إنّ جوع أهل غزة يُشكّل وصمة عار في جبين الإنسانية، وجرحًا نازفًا في ضمير العالم.
إنّ ستين يومًا مضت منذ أن أغلقت "إسرائيل" كل المعابر المؤدية إلى غزة، وأوقفت تدفق المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية بشكل كامل، في مشهدٍ يُبرز بوضوح استخدام الاحتلال للمساعدات كسلاح حرب، يهدف إلى إحكام الخناق على رقاب أهل القطاع، فقد عمدت "إسرائيل" إلى سدّ منافذ الحياة، ومنعت وصول الغذاء والدواء، لتضاعف آلام السكان الذين شُرّدوا من ديارهم، وكأنها تُريد أن تجعل من الجوع أداةً للتركيع والإذلال.
في أوائل مارس 2025، انتهت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة حماس و"إسرائيل"، الذي دخل حيّز التنفيذ في التاسع عشر من يناير من العام ذاته، لكن "إسرائيل"، كعادتها، لم تلتزم بتعهداتها، وعادت إلى ممارسة سياسات الإبادة الجماعية بحق سكان القطاع، وقد أدى هذا التصعيد إلى انهيار الاتفاق، وتعاظم المأساة الإنسانية التي تخنق غزة بلا هوادة.
وحسب بيانات البنك الدولي، فإنّ 2.4 مليون فلسطيني في غزة يعتمدون اعتمادًا كليًا على المساعدات الغذائية، بعدما دُمّرت سبل العيش نتيجة 19 شهرًا من الحرب والإبادة الإسرائيلية، وفي هذا القطاع المُثقل بالجراح، لا يجد السكان مصدر رزقٍ ولا عملٍ، وقد باتت حياتهم معلقةً بين ركام المنازل وخرائب الملاجئ، حيث يعيش معظمهم في أماكن مزدحمة شبه مدمرة، أو في العراء بلا مأوى، ما أدى إلى تفشي الأوبئة والأمراض بصورة مأساوية.
وعودٌ أمريکية جوفاء ومشاريع لا ترى النور
رغم إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن قرب إطلاق آلية لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة، فإنّ الأيام تمضي دون أن يُترجم هذا الوعد إلى واقع، وصرّح تامي بروس، المتحدث باسم الوزارة، بأنّ تنفيذ الآلية بات قريبًا جدًا، وأنّ “ما يفصلنا عن تقديم الغذاء والمساعدات لسكان غزة، ليس سوى خطوات قليلة”، لكن تلك الخطوات لم تُتخذ، ولم يُرصد أي تحرك فعلي يُخفف معاناة أهل القطاع.
وفي مؤتمر صحفي عُقد في القدس، زعم السفير الأمريكي لدى "إسرائيل"، مايك هاكبي، أنّ شركات أمنية خاصة ستتكفل بضمان سلامة عملية توزيع المساعدات في غزة، مؤكداً أن "إسرائيل" لن تشارك في هذه العملية، غير أنّ هذه التصريحات لم تترجم إلى أفعال، ولا يزال القطاع ينتظر ما لا يأتي، مُحاصراً بالجوع والمرض واليأس.
إغاثات وهمية وشعارات خادعة
وفي ظل هذا المشهد المأساوي، أعلنت دول أوروبية، من بينها سويسرا، عن نشاط منظمة غير ربحية تُدعى مؤسسة غزة الإنسانية، مسجلة في سويسرا، ويقع مقرها الرئيسي في جنيف، وقد أكدت صحيفة لو تامبس السويسرية أن هذه المؤسسة تسعى إلى توظيف كوادر لتوزيع المساعدات في غزة، لكن هذه المبادرة، على غرار غيرها، ظلت حبيسة التصريحات ولم تُحقق أي تقدم يُذكر.
وكان من المفترض أن تقوم هذه المؤسسة بتوزيع حصص غذائية معبأة، ومياه صالحة للشرب، وطرود صحية، وبطانيات، وغيرها من المستلزمات الأساسية على سكان القطاع، لكن حتى الآن، لم تُنفذ هذه المنظمة شيئًا، لتبقى غزة عالقةً في دوامة الشعارات الرنانة والوعود الزائفة، في انتظار ما قد لا يتحقق أبدًا.
جحيم غزة
غزة اليوم ليست مجرد أرض تعاني، بل هي مسرح يجسّد أعتى فصول الكارثة الإنسانية، حيث تتضافر صنوف المعاناة لتخلق مشهدًا مأساويًا، يقف أمامه الضمير الإنساني عاجزًا، فقد أفاد عدد من الأطباء والعاملين في مجال الإغاثة الدولية لشبكة “إي بي سي نيوز”، بأنّ شريان الحياة في غزة يوشك أن ينقطع تمامًا، فالمياه والغذاء والأدوية والمستلزمات الطبية باتت في عداد النادر أو المفقود، وأكدوا أن الأطفال يواجهون شبح سوء التغذية، وأن الأوبئة باتت تلوح في الأفق، فيما الجرحى يُتركون لمصيرهم دون علاج، في مشهدٍ يُناجي العالم لإنقاذ ما تبقى من الأرواح.
صرّح جوناثان كريك، رئيس قسم الاتصالات في منظمة اليونيسف، لشبكة “إي بي سي نيوز” بعبارات تنطق بالفزع: “إذا لم نفعل شيئًا، إذا لم تدخل شحنات الغذاء، إذا لم تصل إمدادات المياه، وإذا لم تُوفر اللقاحات بالكميات المطلوبة، فإننا أمام كارثة تُزهق المزيد من أرواح الأطفال”، وأضاف إن نقص المواد الغذائية يُعدّ من أخطر الأزمات التي تحاصر القطاع، إذ باتت غزة تقف على حافة الهاوية.
وفي هذا السياق، أكّد أسامة عاس، أحد العاملين في مجال الإغاثة، أنّ الوضع “يتدهور يومًا بعد يوم، ولا سيما في ما يتعلق بالغذاء”، مشيرًا إلى أنّ معظم سكان غزة يعتمدون بالكامل على المساعدات الإنسانية والمطابخ الشعبية، وأوضح أنّ أغلب العائلات بالكاد تقتات على وجبة واحدة في اليوم، تتألف غالبًا من الخبز والمعلبات، في مشهدٍ يعكس قسوة الحياة وشدة الحرمان.
أما الدكتور أحمد الفار، رئيس قسم الأطفال في مستشفى ناصر بخان يونس جنوب غزة، فقد ألقى الضوء على صورةٍ أخرى من صور البؤس، مؤكّدًا أنّ الأشهر الأخيرة شهدت تزايدًا مقلقًا في حالات سوء التغذية بين الأطفال، واستشهد بحالة طفلة رضيعة تُدعى سيوار، ولدت قبل أربعة أشهر بوزن 2.5 كيلوجرام، وكان من المفترض أن يتضاعف وزنها ليصل إلى 5 كيلوجرامات، لكنها لم تزد سوى القليل، ليبلغ وزنها الحالي 6 أرطال فقط، وأوضح الدكتور الفار أنّ الأم عاجزة عن إرضاع طفلتها بسبب سوء تغذيتها هي الأخرى، ولأن الأسرة لا تملك المال لشراء الحليب الصناعي، اضطرت إلى إطعام الرضيعة ماءً محلى بالسكر، في مشهد يُثير الحسرة.
ولم تتوقف المأساة عند حدود الجوع، بل إن الحصار الجائر على القطاع ألقى بظلاله القاتمة على انتشار الأمراض، فقد أشار الإغاثيون إلى أنّ الاكتظاظ السكاني في المخيمات، مقرونًا بنقص مياه الشرب النظيفة وتدهور مستوى النظافة وغياب المنتجات الصحية، جعل من سكان غزة هدفًا سهلًا للأمراض المعدية.
وأوضحت الدكتورة أقصى دوراني، طبيبة الأطفال التي عملت مؤخرًا مع منظمة أطباء بلا حدود، أنّ نقص الصابون والمواد الصحية أدى إلى تفاقم الأمراض الجلدية، مثل الجرب، مؤكدةً أنّ هذا الوضع سيستمر في التدهور مع غياب الموارد، ورغم عدم توافر بيانات دقيقة عن الشهرين الماضيين، إلا أنّ دراسة أجريت في أبريل 2024 قدّرت عدد الإصابات بالجرب والقمل بين الأطفال دون الخامسة من النازحين في القطاع، بنحو 55,400 حالة.
ولم تكن الأمراض الجلدية وحدها التي تفشت، فقد تسبب نقص المياه الصالحة للشرب والاكتظاظ في المخيمات بارتفاع مقلق في حالات الإصابة بالأمراض المعوية، وعلى رأسها الإسهال المزمن، وأفاد تقرير صادر عن معهد الدراسات الفلسطينية بأنّ ما لا يقل عن نصف الحالات المسجلة حتى يناير 2024 كانت بين الأطفال دون الخامسة، وأشار كريك إلى أنّ معظم الأطفال المصابين يعانون من الإسهال المائي المزمن، وهو مرض قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تهدد حياة الرضع وصغار الأطفال، في ظل غياب العلاج والرعاية الكافية.