الوقت - في اليوم الأول من زيارة ترامب إلى الرياض، أُبرمت بين البلدين اتفاقية لتعزيز التعاون الاستراتيجي، لكن المفاجأة الكبرى جاءت حينما كشفت وكالة “رويترز” عن تنازل واشنطن عن شرط تطبيع العلاقات بين المملكة والكيان الصهيوني كشرط مسبق للتقدم في المفاوضات النووية بين الطرفين.
ووفقاً لمصادر مطلعة، يُعدّ هذا التنازل من البيت الأبيض خطوةً استثنائيةً، و"امتيازاً عظيماً"، وخاصةً إذا ما قورن بموقف الإدارة الأمريكية السابقة التي شدّدت على اشتراط التطبيع الكامل مع تل أبيب، إلى جانب توقيع اتفاقية دفاعية شاملة، كمدخل للتعاون النووي مع الرياض.
وعلى الرغم من أن إسقاط شرط التطبيع قد يُمهّد الطريق لتقدّم المفاوضات بين الطرفين، إلا أن “رويترز”، نقلاً عن خبراء، ترى أن التوصل إلى اتفاق نووي بين الرياض وواشنطن لا يزال بعيد المنال، بالنظر إلى التحديات المتعلقة بالتخصيب المحلي وضمانات الأمن، وفي خضم هذه التحولات، تتجه الأنظار إلى المنطقة بانتظار “الأخبار السارة” التي وعد بها ترامب.
استراتيجية السعودية في البرنامج النووي
لا يمكن فهم البرنامج النووي السعودي إلا في سياق التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي تشهدها المملكة، فالسعودية، التي اعتمدت لعقود طويلة على إيرادات النفط، تواجه الآن تحديات حادة تتمثل في انخفاض الاحتياطيات النفطية وتقلبات الأسعار، إلى جانب ذلك، فإن النمو السكاني المتسارع والتوسع الصناعي المتزايد في القطاعات ذات الاستهلاك المرتفع للطاقة، سيضاعف الحاجة إلى الكهرباء ثلاث مرات بحلول عام 2030 مقارنةً بالمستوى الحالي.
وقد أفادت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية بأن المملكة تُنتج 68% من كهربائها عبر حرق الغاز و32% عبر حرق النفط، فيما يُستهلك يومياً حوالي 1.4 مليون برميل من النفط الخام لتوليد الكهرباء خلال أشهر الصيف.
وترى الرياض أن الطاقة النووية يمكن أن تُسهم في تلبية احتياجات القطاعات الصناعية الثقيلة مثل تحلية المياه وتكييف الهواء، ما يُتيح لها زيادة صادرات النفط وتحقيق عائدات أكبر، كما أن الالتزامات الدولية بخفض انبعاثات الكربون، تُعزز من توجّه المملكة نحو الطاقة النووية.
لكن البرنامج النووي السعودي لا يقتصر على كونه مشروعاً للطاقة فحسب، بل يُعد رمزاً للقوة التكنولوجية ومكانة المملكة الإقليمية، فمنذ عام 2010، شرعت السعودية في وضع خطط طموحة لتطوير بنيتها التحتية النووية، بدءاً من تأسيس “مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة” كقاعدة أولى، وصولاً إلى توقيع اتفاقيات مع دول مثل كوريا الجنوبية وفرنسا والأرجنتين لنقل التكنولوجيا النووية، وقد أُطلق مشروع بناء مفاعلين بحثيين بقدرة 100 ميغاواط بالتعاون مع كوريا الجنوبية، يتوقع تشغيلهما بحلول عام 2025، كما أنشأت السعودية هيئة تنظيم نووي مستقلة لإظهار التزامها بالمعايير الدولية.
التعاون النووي كجزء من الشراكة الاستراتيجية الاقتصادية
ضمن إطار تعزيز التعاون الاقتصادي بين الرياض وواشنطن، أعلنت السعودية عن خطط لضخّ استثمارات ضخمة في الاقتصاد الأمريكي تُقدر بتريليون دولار، على أمل توطيد العلاقات بين البلدين، غير أن المفاوضات بين الطرفين لم تقتصر على مطالب واشنطن فقط، بل حملت الرياض شروطاً خاصةً بها.
من أبرز مطالب السعودية السماح بتخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، وقد صرّح وزير الطاقة السعودي، الأمير عبدالعزيز بن سلمان، بأن المملكة “تسعى لتخصيب اليورانيوم وبيع منتجاته”، هذا الطموح أثار مخاوف دولية وأمريكية بشأن انتشار الأسلحة النووية في المنطقة، كما تشترط الرياض الحصول على ضمانات أمنية من واشنطن قبل توقيع أي اتفاق، بما يشمل اتفاقية دفاعية، لكن السعودية، التي تراجعت العام الماضي عن طلب اتفاقية شاملة للدفاع مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني، تسعى الآن إلى اتفاق “أقل شمولاً” للتعاون العسكري الثنائي.
تحوُّل في السياسة الأمريكية التقليدية
لطالما تمسكت الولايات المتحدة بسياسة صارمة إزاء نقل التكنولوجيا النووية إلى السعودية، حيث وضعت ثلاثة شروط أساسية: أولاً، توقيع السعودية على “اتفاقية 123”، التي تحظر تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود النووي، ثانياً، تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، ثالثاً، توقيع اتفاقية دفاعية شاملة مع واشنطن، وقد ظلت هذه السياسة قائمةً حتى عهد ترامب.
لكن في زيارة وزير الطاقة الأمريكي كريس رايت إلى السعودية في أبريل الماضي، أشار إلى تغيّر محتمل في النهج الأمريكي، مؤكداً أن البلدين يسيران على “طريق” نحو اتفاق نووي مدني.
ويرى المحللون أن هذا التحول في السياسة يعود لعدة أسباب: أولاً، رغبة ترامب في تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة من تعميق العلاقات مع السعودية، التي تتطلع إلى امتيازات نووية مقابل استثماراتها الضخمة في الاقتصاد الأمريكي وصفقة الأسلحة البالغة 140 مليار دولار، ثانياً، مخاوف واشنطن من احتمال توجُّه الرياض نحو روسيا أو الصين، وخاصةً في ظل التنافس المتزايد بين القوى الكبرى في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، وثالثاً، ضغط اللوبيات الاقتصادية والطاقة في الولايات المتحدة للمشاركة في مشاريع السعودية النووية المربحة.
تحديات فنية وبنية تحتية وسياسية
يواجه البرنامج النووي السعودي عقبات كبرى، أبرزها نقص الكفاءات البشرية المؤهلة، حيث تُقدر المملكة حاجتها إلى ما لا يقل عن ألفي خبير نووي لتفعيل مشاريعها، وهو ما يتطلب تدريباً يمتد لعقد كامل، كما أن اعتماد السعودية الكامل على التكنولوجيا الأجنبية، يجعلها عرضةً للقيود الدولية والعقوبات المحتملة، من ناحية أخرى، الظروف الجغرافية مثل الحرارة المرتفعة والعواصف الرملية، تشكّل تحديات إضافية على مستوى الأمان النووي.
لكن حتى إذا تجاوزت السعودية هذه العقبات الفنية، تبقى القضية الأكثر حساسيةً هي المعارضة الإسرائيلية الشديدة لبرنامج نووي سعودي، إذ يُخشى أن يُشعل هذا البرنامج سباقاً للتسلح النووي في المنطقة، وقد طالب يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو باتخاذ موقف صارم ضد أي اتفاق قد يُمكّن السعودية نووياً.
مستقبل البرنامج النووي السعودي
في ظل هذه التعقيدات، يبدو أن المفاوضات بين الرياض وواشنطن ستستمر بصعود وهبوط، السعودية قد تستغل هذه الفرصة للحصول على المزيد من الامتيازات من الولايات المتحدة، بينما تُبقي الباب مفتوحاً أمام التعاون مع روسيا والصين، وهذا الوضع قد يؤدي إلى تأخير طويل في تنفيذ البرنامج النووي السعودي دون تحقيق تقدم ملموس على المدى القريب.