الوقت- بينما مرت ثلاثة أشهر منذ وصول الجماعات المتمردة إلى السلطة في سوريا، وبينما كان من المتوقع أن يخضع الاستقرار النسبي في البلاد عاجلاً أم آجلاً لدوامة من الاضطرابات الأمنية، فإن تصرفات الحكومة بقيادة تحرير الشام أشعلت أخيراً الصراع، بحيث تكثفت المخاوف بشأن المستقبل غير الواضح، بعيداً عن تركيز عدسة كاميرات وسائل الإعلام على عرض المواقف الحضارية لأحمد الشرع.
وبعد الاحتجاجات المتكررة للأقليات السورية ضد سياسات هيئة تحرير الشام، وصلت ردود الفعل هذه الآن إلى مستوى المواجهة المباشرة، وفي هذا الصدد، تحدثت وسائل إعلام عن اشتباكات عنيفة بين مجموعات مسلحة درزية في مدينة جرمانا على أطراف دمشق، وقوات موالية لـ"أحمد الشرع" الملقب بـ"أبو محمد الجولاني"، رئيس الحكومة السورية المؤقتة.
وقال مسؤولون في الحكومة المؤقتة إن التوترات الأمنية اندلعت الجمعة بعد مقتل اثنين من عناصر قوى الأمن الداخلي على يد مسلحين دروز في جرمانا، وطلب هؤلاء المسؤولون الأمنيون من وجهاء جرمانا تسليم من قتلوا عناصر الأمن فوراً، إلا أنهم لم يتلقوا أي رد.
وذكرت بعض المصادر أن مسؤولين أمنيين سوريين أمهلوا مسلحي جرمانا خمسة أيام لتسليم أسلحتهم وإزالة العراقيل، كما وصلت القوى الأمنية والعسكرية إلى مدينة جرمانا وأقامت حواجز حولها.
كما هاجمت الميليشيات الدرزية في السويداء مدينة جرمانا، ما أدى إلى إخراج المنطقة من سيطرة حكومة الجولاني، كما أعلن المجلس العسكري الدرزي جاهزيته، وخرج الدروز إلى الشوارع، استعداداً لإرسالهم إلى دمشق لقتال القوات الموالية للجولاني.
غموض في أسلوب حكم هيئة تحرير الشام
إن الغضب الدرزي هو بداية العصيان المدني ضد الوضع الذي خلقه قادة تحرير الشام في سوريا، وقد أدى الغموض والتناقض بين تصريحات وأفعال أحمد الشرع وقادة هيئة تحرير الشام، وخاصة فيما يتعلق بمعاملة الأقليات وطريقة الحكم، إلى زيادة انعدام الثقة والانقسامات بين الأقليات السورية، وتشكل الاشتباكات الأخيرة مع المجتمع الدرزي مثالاً على عواقب هذه الإبهامات، والتي قد تؤدي إلى زيادة التوترات والمزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
بعد سقوط بشار الأسد، اعتمد أحمد الشرع لهجة تصالحية، داعياً إلى الوحدة الوطنية السورية، ودعم الأقليات، وحل الفصائل المتمردة، وفي مقابلاته، زعم مراراً وتكراراً أن تحرير الشام تسعى إلى تشكيل حكومة شاملة وغير طائفية تمثل جميع المجتمعات السورية، لكنه غير موقفه لاحقاً وقال إن تشكيل الحكومة عملية تستغرق وقتاً طويلاً ولا يمكن تنفيذها خلال السنوات الأربع المقبلة، ولذلك، فمن خلال تعيين نفسه رئيساً للحكومة المؤقتة، سعى إلى تعزيز أسس حكومته.
ورغم ادعاءات زعماء الجماعات المسلحة باستقلال اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني السوري، فإن أدلة عديدة تشير إلى أن أحمد الشرع يتمتع بنفوذ واسع على قرارات هذا المؤتمر، وقد أثار تعيين أعضاء اللجنة من قبل الشرع، ووجود أفراد لديهم تاريخ من الانتماء إلى الجماعات المسلحة في اللجنة، مخاوف بشأن استقلالها ونواياها الحقيقية.
ويبدو أن هيئة تحرير الشام، التي انبثقت من أصول أيديولوجية للفكر التكفيري، حاولت في السنوات الأخيرة تقديم نفسها بشكل مختلف عن الماضي، وقد خلقت هذه التغييرات غموضاً حول النوايا الحقيقية والأهداف السياسية للجماعة.
إن حديث الجولاني، وهو يرتدي البدلة وربطة العنق، عن تطبيق الديمقراطية ودعم حقوق الأقليات، لم يتمكن بعد من حل الرأي العام السلبي والمعضلة الأمنية للأقليات الدينية والعرقية في سوريا، وخاصة أن ما يراه الشعب السوري على أرض الواقع هو عكس ما يقوله الجولاني.
وحتى على النقيض من ادعاءات الجولاني، فإن الجماعات المسلحة لم تتغير من حيث الأيديولوجية، والأفكار المتطرفة من الماضي لا تزال متجذرة في نسيج التكفيريين، ومجرد تغيير الأدبيات والمظهر الخارجي للقيادات لا يمكن أن يطهر هذه الأيديولوجية من جسد تلك الجماعات، ورغم جهود هيئة تحرير الشام لتحسين العلاقات مع الأقليات، فقد وردت تقارير عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المناطق الخاضعة لسيطرة المجموعة، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والقمع وقتل المعارضين.
لقد أعطى الشعب السوري المجموعات المسلحة مهلة ثلاثة أشهر لإظهار أنهم يحسنون الظن، لكن عملية التغيير لم تسر كما توقعوا، والآن أدرك غالبية الشعب حقيقة مفادها بأنهم تحت راية تحرير الشام لا يستطيعون تحقيق ما يريدونه، أي الاستقرار والحكم الديمقراطي، ولذلك يعتبرون العمل المسلح هو السبيل الوحيد لإصلاح هياكل الحكم الجديدة، لأن الحكومة الشاملة التي كان الجولاني يهتف بها لم تتحقق على أرض الواقع، والأقليات التي عاشت في سوريا قروناً طويلة تم إقصاؤها بسهولة من دائرة السلطة.
الكيان الصهيوني يتصيد الفرص
وبما أن الكيان الصهيوني يستغل كل توتر داخل سوريا لتحقيق أغراضه الشريرة، فقد استخدم هذه المرة أيضاً الصراع الدرزي مع الحكومة المؤقتة كذريعة لتمهيد الطريق لاحتلاله.
وفي هذا الصدد، حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إثر هذه التوترات، الحكومة السورية من أنه إذا استمرت الهجمات على الدروز فإن إسرائيل ستتخذ إجراءات فورية، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أننا لن نسمح للنظام المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز، لكن حكومة نتنياهو لم تكتف بالتهديد، بل تمكنت من احتلال مناطق جديدة في جنوب سوريا بتبرير الدفاع عن الدروز.
ومن المرجح أن يعامل الصهاينة الدروز كمربية أكثر من كونهم أمهات، في حين كانت هذه الأقلية، خلال حكم عائلة الأسد، لديها وجهة نظر حذرة تجاه الكيان الصهيوني، بل أعربت عن معارضتها لسياسات الكيان في بعض الأحيان.
لقد ناضل الدروز، كأقلية دينية في سوريا، على الدوام من أجل الحفاظ على هويتهم وأمنهم، ومع تزايد نفوذ هيئة تحرير الشام في المناطق التي يسكنها الدروز، زادت التوترات بين هذه الجماعات، وأثارت الغموض في سياسات هيئة تحرير الشام وأهدافها مخاوف بشأن المستقبل السياسي والاجتماعي للمناطق التي يسكنها الدروز.
ويعد الدروز من الأقليات المهمة المتواجدة في سوريا، والذين ظلوا يتعايشون بسلام إلى جانب المجموعات العرقية الأخرى لفترة طويلة، وتعتبر محافظة السويداء المحافظة الوحيدة التي يشكل الدروز فيها الأغلبية، ويشكل الدروز ثلاثة بالمئة فقط من سكان سوريا، وتشير التقارير إلى أن العديد من أفراد الأقلية الدرزية في السويداء مسلحون ويمكن أن يشكلوا تحديًا خطيرًا للجماعات المسلحة المتمركزة في دمشق.
وتشير هذه المواجهات إلى المزيد من التعقيدات في الأزمة السورية، ويواجه الدروز، كأقلية دينية، صعوبة في الحفاظ على استقلاليتهم وأمنهم في مواجهة الجماعات المسلحة،، ولذلك فإن الدخول المحتمل للجيش الصهيوني في هذه الصراعات قد يؤدي إلى تصعيد التوترات وتعقيد الوضع أكثر.
مستقبل غامض لسوريا في ظل حكم هيئة تحرير الشام
ومع سيطرة العناصر التكفيرية على الهياكل السياسية في سوريا، فإن تحقيق الاستقرار والأمن في هذا البلد لن يكون أكثر من مجرد حلم، ونظراً للاتجاهات المتطرفة للجماعات المسلحة، فمن غير المجدي أيضاً أن تعلق قلبك على تحقيق الديمقراطية، ومن شأن هذه التوترات أن تزيد من عدم ثقة الأقليات الأخرى في الحكام الجدد في سوريا، ويعتقد المراقبون أن الناس في مدن أخرى قد يتمردون أيضاً ضد الحكومة المؤقتة.
وقد تؤدي الاشتباكات الأخيرة إلى تعميق الانقسامات الدينية في سوريا، وخاصة بين هيئة تحرير الشام والأقليات مثل الدروز، ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التوترات إلى إشعال صراعات أوسع نطاقا وتقويض جهود المصالحة الوطنية.
ومن ناحية أخرى، قد توفر الصراعات الداخلية ذريعة لمزيد من التدخل من قبل القوى الإقليمية والخارجية في الشؤون السورية، ما قد يؤدي إلى المزيد من التعقيدات في الأزمة السورية، وكما يظهر موقف تل أبيب الداعم للدروز، فإن هذه الصراعات يمكن أن تمتد إلى ما هو أبعد من الحدود، ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التطورات إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة وتعقيد الجهود الدبلوماسية الدولية، لأن المجتمع الدولي اشترط أي تعامل مع حكومة تحرير الشام باحترام حقوق الأقليات وإقامة حكومة ديمقراطية، وإذا استمر حكام دمشق في قمعهم وتطرفهم فإنهم سيبقون في عزلة سياسية.
وبشكل عام، فإن الصراع بين الدروز السوريين وهيئة تحرير الشام يوضح التحديات المعقدة التي تواجه حكم مجتمع متنوع في مرحلة ما بعد الصراع وما بعد الأزمة، وتعكس الاشتباكات الأخيرة التوترات الطائفية والإثنية في سوريا، والتي قد تكون لها آثار بعيدة المدى على المستقبل السياسي والأمني للبلاد.
وعلى الرغم من جهود تحرير الشام لخلق صورة أكثر شمولاً، فإن انعدام الثقة في الأقليات والاشتباكات الأخيرة تشير إلى أن تحقيق السلام الدائم يتطلب مشاركة أعمق وإنشاء ترتيبات حقيقية للأقليات لتقاسم السلطة.
