الوقت - شدّ "أحمد الشرع" - المعروف في الأوساط السياسية بأبي محمد الجولاني - رئيس هيئة تحرير الشام، والذي تقلّد مؤخراً منصب رئيس الحكومة الانتقالية السورية بتكليف من إدارة العمليات العسكرية، الرحال متوجهاً إلی المملكة العربية السعودية يوم الأحد الماضي، يصطحبه في ركبه أسعد الشيباني، الذي يتولى حقيبة الخارجية في الحكومة الانتقالية.
وما إن حطت رحال الشرع بأرض الرياض، حتى كان في استقباله محمد بن عبد الرحمن، نائب أمير الرياض، في مشهد يعكس حفاوة الاستقبال الرسمي، وحسب ما أفصح عنه بيان رئاسة الجمهورية السورية، فإن برنامج زيارة أحمد الشرع يتضمن لقاءً مرتقباً مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
في هذا السياق، بادر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ونجله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بإرسال التهاني والتبريكات إلى أحمد الشرع بمناسبة تقلده سدة الرئاسة السورية، مؤكدين في رسالتهما التزام المملكة بدعم الدولة والشعب السوري.
وتتجلى في هذه الزيارة، التي تعدّ باكورة جولات الجولاني الدبلوماسية خارج سوريا، دلالات تعكس مساعي هيئة تحرير الشام الحثيثة لتوطيد أركان شرعيتها على الساحتين الإقليمية والدولية، واستقطاب أواصر التعاون العربي عبر تبديد هواجس القوى المحورية في المنطقة، ولا سيما السعودية والإمارات ومصر.
وقد سبق لرئيس هيئة تحرير الشام أن عقد لقاءات مع كبار المسؤولين السعوديين في دمشق، حيث تباحث في الأسبوع المنصرم مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، الذي أكد خلال زيارته للعاصمة السورية، على ضرورة رفع العقوبات المفروضة على سوريا.
وفي سياق متصل، حطّ وزير خارجية الحكومة السورية الجديدة أسعد الشيباني رحاله في الرياض مؤخراً، حيث أجرى محادثات مع نظرائه السعوديين، تناولت آفاق العلاقات الثنائية ومستجدات المشهد الإقليمي.
تتجلى في المشهد السياسي الراهن المقاربة السعودية البراغماتية في التعامل مع القيادة السورية المستجدة، إذ تنتهج المملكة نهجاً يجمع بين الحكمة والتروي، فبينما تمدّ يد التواصل بسخاء، تحتفظ بقدر من التحفظ الدبلوماسي، مستحضرةً في ذلك التاريخ المتشابك لهيئة تحرير الشام، ولعل هذا النهج يستمد جذوره من موقف المملكة التاريخي في صدّ تيارات الإسلام السياسي، ولا سيما الإخوان المسلمين، عن اعتلاء سدة الحكم في أرجاء المنطقة.
وقد أعلن أحمد الشرع، في حديث مع وسائل الإعلام التركية، عن عزمه على جعل وجهته الأولى إما صوب السعودية أو تركيا، مصرحاً: "تختلج في نفسي مشاعر المودة والتقدير تجاه المملكة العربية السعودية"، وبهذا التصريح الجلي، رسم الجولاني ملامح رؤيته المستقبلية للعلاقات بين دمشق والرياض.
وفي سياق متصل، كانت السعودية قد بادرت، قبيل تداعي أركان نظام الأسد، إلى إحياء أواصر العلاقات مع دمشق بعد قطيعة امتدت عقداً كاملاً، بيد أن تلك المبادرة لم تتخط حدود التصريحات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات.
ورغم توجيه الرياض دعوتين للأسد لحضور مؤتمرات القمة العربية على أرضها، إلا أن دعمها لنظامه ظلّ في حدود ضيقة، وعليه، تنطوي هذه الزيارة على دلالات تشي بتحولات جوهرية في المشهد الدبلوماسي الإقليمي، وتعكس مساعي هيئة تحرير الشام الحثيثة لتكييف استراتيجيتها مع المتغيرات السياسية المتسارعة في سوريا والمنطقة.
زيارة الجولاني للسعودية: الأهداف والرسائل
على الرغم من أن هيئة تحرير الشام تُصنَّف في عداد التنظيمات الإرهابية، إلا أن زيارة الجولاني إلى المملكة العربية السعودية تنطوي على أبعاد بالغة الأهمية، إذ تتمحور بصفة خاصة حول مباحثات تستهدف صياغة علاقات جديدة مع الدول العربية، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة: الشأن الأمني، والمسار السياسي، والتعاون الاقتصادي في المنطقة.
في هذا المضمار، تحدّث الخبير في شؤون غرب آسيا، السيد جعفر قنادباشي، في حديث خصّ به موقع "الوقت" عن مرامي زيارة الجولاني إلى السعودية، وعن سبب اختيار الرياض كأول محطة يحطّ فيها رحاله حاكم دمشق الجديد، قال: "لقد أتت زيارة الجولاني إلى المملكة العربية السعودية ثمرة حسابات للمشهد الراهن، وغايتها إرساء التوازن في نسج العلاقات وتوطيد الأواصر مع دول المنطقة، ولا ريب في ذلك، إذ إن الزيارات التي قام بها مبعوثو تركيا وقطر إلى سوريا ولقاءاتهم به، قد أذكت الظنون بأنه يجنح عن مدّ جسور التواصل مع السعودية، ومن هنا، فإن هذه الزيارة تفتح نافذةً لتبديد ما قد يساور الرياض من هواجس حيال مجريات الأحداث في سوريا، ناهيك عن أن الاستفادة من الدعم المالي السعودي السخي، مما لا يروم الجولاني الانصراف عنه البتة".
وما يجدر ذكره أن سوريا ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، نجمت عن رحى الحرب الضروس التي طال أمدها والعقوبات الغربية الجائرة، وباتت في أمسّ الحاجة إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار، ولذا فإن من أبرز ما تصبو إليه القيادة السورية الجديدة، أن تمدّ المملكة العربية السعودية ومشيخات الخليج الفارسي يد العون للشعب السوري في هذا المسعى.
واسترسل قنادباشي في حديثه قائلاً: "ها هي سوريا اليوم تقف على مفترق سبل تتصارع عنده تيارات متناحرة ومذاهب متباينة، يتجلى أربابها في المشهد الإعلامي بين الوهابيين والإخوان، وكل منهم يسعى حثيثاً، عبر أذرعه وفصائله المستأمرة، إلى مدّ ظلال نفوذه على شطر أوفر من بلاد الشام، ولعل زيارة الجولاني إلى السعودية قد جاءت بإيحاء وتحريض من سلطات أنقرة والدوحة، في مسعى لتبديد غيوم الشك المتراكمة بين الجانبين، وإزالة ما علق بالنفوس من شوائب الريبة".
وتابع الخبير في شؤون غرب آسيا، متسائلاً عن قدرة هيئة تحرير الشام على تبديد هواجس العرب حيال صلاتها الوثيقة بالمحور الإخواني، وما ستؤول إليه دفة السياسة العربية في خضم التحولات السورية المتلاحقة، فأردف قائلاً:
"في ظل ما يعصف بسوريا من اضطراب عارم وأحوال متقلبة، يغدو من ضروب المستحيل - ليس فقط إنفاذ ما تعهدت به الدول العربية من وعود تجاه هذا البلد - بل تحقيق جُل المساعي السياسية والاقتصادية المنشودة، ولا سيما أن الفصائل المتناحرة على أرض الشام قد حازت من ناحية ترسانةً وافرةً من العتاد الحربي، واكتسبت من ناحية أخرى خبرات جمة في إشهاره واستخدامه.
وعليه، فإن سوريا - في المنظور القريب - ستغدو ميداناً لصراعات مستعرة تشلّ أوصال المنطقة، ومسرحاً لتصفية حسابات القوى الإقليمية والدولية الكبرى، ما سيضطر الدول العربية إلى تطويع سياساتها وفق ما تمليه المستجدات المتسارعة، وفي خضم هذا المشهد المضطرب، فإن نيران التوتر المتأججة جراء جرائم الكيان الصهيوني واعتداءاته المتكررة على الأراضي السورية، تهيئ الأرضية الخصبة لتآزر القوى المناهضة للصهيونية وتلاحمها، الأمر الذي سيجعل السياسات العربية في هذا البلد عرضةً لتقلبات وارتدادات لم تكن في الحسبان".