الوقت - شهد العالم مؤخرًا موجة جديدة من الجهود الدولية لمحاسبة جنود وضباط الاحتلال الإسرائيلي المتورطين في ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، وخاصة في قطاع غزة.
اعتمدت هذه الملاحقات على أدلة قُدمت إلى المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات القضائية العالمية، ما أدى إلى إصدار أوامر اعتقال ضد عدد من الجنود والضباط، وفي الوقت نفسه، تعكف "إسرائيل" على مواجهة هذا التحدي من خلال استراتيجيات دبلوماسية وأمنية تهدف إلى حماية جنودها ومنع محاكمتهم دوليًا.
تسلط هذه القضية الضوء على الأبعاد القانونية والسياسية والأخلاقية للصراع، حيث تبرز جهود منظمات حقوقية مثل "صندوق هند رجب" في جمع الأدلة وملاحقة مرتكبي الجرائم، وفي المقابل، تعمل "إسرائيل" على تقويض هذه الجهود بشتى الطرق، ما يفتح الباب أمام مواجهة قانونية وسياسية معقدة.
الملاحقات القضائية وظهور قضية "صندوق هند رجب"
بدأت قضية الملاحقات الدولية لجنود الاحتلال تتصاعد عندما طالبت جهات حقوقية عديدة باعتقال جنود إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم حرب خلال عدوانهم على قطاع غزة، ومن أبرز هذه الجهود، تحركات جمعية المحامين في تشيلي التي تمثل أكبر جالية فلسطينية في العالم، حيث قدمت الجمعية طلبًا رسميًا لاعتقال جندي إسرائيلي متواجد في منطقة باتاغونيا، متهمًا بنشر مقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي يتفاخر فيها بتدمير المباني السكنية في غزة، وخاصة في مخيم النصيرات.
المنظمة التي قادت هذه الحملة هي "صندوق هند رجب"، وهي مؤسسة حقوقية أسسها نشطاء فلسطينيون وأوروبيون لتوثيق الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون، وتقديم الأدلة إلى المحاكم الدولية، وتحمل المنظمة اسم الطفلة "هند رجب" التي استشهدت بطريقة وحشية على يد جيش الاحتلال، ما جعلها رمزًا للضحايا الفلسطينيين الذين يسعون للعدالة.
تمكنت المنظمة من تقديم شكاوى مدعومة بأدلة قوية، ما أدى إلى إصدار أوامر اعتقال في دول مثل البرازيل وتشيلي، وأجبر بعض الجنود على الفرار من البلاد.
فرار الجنود الإسرائيليين ودور المؤسسات الإسرائيلية في تهريبهم
أحد أبرز القضايا التي كشفت عن ضعف "إسرائيل" أمام هذه الملاحقات كانت في البرازيل، حيث صدر أمر قضائي باعتقال جندي إسرائيلي بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب في غزة، على إثر ذلك، تدخلت السفارة الإسرائيلية بشكل عاجل، ونُقل الجندي سرًا إلى دولة مجاورة لتجنب محاكمته.
وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت"، تمكن الموساد وجهاز الأمن الداخلي (شاباك) من تهريب الجنود المطلوبين للعدالة من خمس دول على الأقل، من بينها البرازيل وإسبانيا، إلا أن هذه العمليات لم تكن خالية من التعقيدات، إذ واجه الجنود وأسرهم تهديدات مستمرة وقلقًا دائمًا بشأن إمكانية اعتقالهم في المستقبل.
جهود "إسرائيل" لمواجهة الملاحقات الدولية
ردًا على هذه التطورات، عقد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر اجتماعًا طارئًا بمشاركة وزراء وممثلين من الموساد والشاباك، وركز الاجتماع على تطوير استراتيجية لحماية الجنود، شملت:
إنشاء خط ساخن للجنود لتقديم الاستفسارات حول مخاطر السفر.
إطلاق برامج توعوية تحذر الجنود من نشر صور أو مقاطع توثق جرائمهم.
تشكيل هيئة خاصة لجمع معلومات حول المنظمات الحقوقية الدولية الناشطة ضد "إسرائيل".
كما شددت السلطات الإسرائيلية على توجيه جنود الاحتياط بعدم السفر إلى الدول التي تُعتبر معادية لـ"إسرائيل"، مثل أيرلندا وجنوب أفريقيا والبرازيل.
أبعاد القضية على المستوى الدولي
أثارت قضية الملاحقات الدولية جدلًا واسعًا على الصعيدين القانوني والسياسي، فبينما ترى "إسرائيل" أن هذه الملاحقات جزء من حملات "معاداة السامية"، تؤكد المنظمات الحقوقية أن الهدف منها هو تحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين.
تشير الإحصاءات إلى ارتفاع كبير في عدد الحوادث المتعلقة بالملاحقات القضائية منذ أكتوبر 2023، حيث فُتحت تحقيقات في دول عدة، بما في ذلك المغرب، النرويج، تايلاند، وفرنسا، كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز جهود المنظمات الحقوقية، إذ جمعت هذه الجهات أدلة واضحة عن تورط الجنود في أعمال وحشية موثقة بالصوت والصورة.
دور الإعلام والمنظمات الحقوقية في كشف الجرائم
ساهم الإعلام بشكل كبير في تسليط الضوء على هذه القضية، حيث كشفت تقارير صحفية عن تورط جنود الاحتلال في جرائم موثقة، كما لعبت المنظمات الحقوقية دورًا محوريًا في توثيق هذه الجرائم ونشرها، ما أثار قلق السلطات الإسرائيلية.
"صندوق هند رجب"، على سبيل المثال، ركز جهوده على جمع الأدلة من حسابات الجنود على مواقع التواصل، ما أدى إلى فضح العديد من الجرائم، بالإضافة إلى ذلك، تعمل المنظمة على إبقاء القضية حية في أروقة المحاكم الدولية لضمان محاسبة المسؤولين.
تحديات وإجراءات مستقبلية
تواجه "إسرائيل" تحديات كبيرة في ظل تنامي هذه الملاحقات، فبالإضافة إلى الصعوبات القانونية، تعاني السلطات الإسرائيلية من تداعيات سياسية ودبلوماسية، وخاصة مع الدول التي أصبحت تتخذ مواقف أكثر صرامة تجاه جرائم الاحتلال.
في المقابل، تسعى "إسرائيل" إلى تحسين سيطرتها على الجنود عبر إطلاق دورات تدريبية لرفع مستوى الوعي بالمخاطر القانونية وتقديم الدعم القانوني لهم، كما تعمل على تقويض سمعة المنظمات الحقوقية من خلال اتهامها بمعاداة السامية أو خدمة أجندات سياسية.
تُظهر قضية الملاحقات الدولية لجنود الاحتلال الإسرائيلي تحولًا كبيرًا في طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث لم يعد الأمر يقتصر على المواجهات العسكرية أو الدبلوماسية، بل أصبح الصراع يمتد إلى ساحات القضاء الدولي، بينما تسعى المنظمات الحقوقية لتحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين، تجد "إسرائيل" نفسها أمام تحديات غير مسبوقة تحاول مواجهتها عبر وسائل دبلوماسية وأمنية.
يبقى السؤال المطروح: هل سينجح المجتمع الدولي في محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في غزة؟ أم ستتمكن "إسرائيل" من التملص من هذه الملاحقات كما حدث في الماضي؟
