الوقت- إن التفكير في أمن الطاقة بالنسبة للدول الأوروبية، يعني التفكير في روسيا، وذلك لأن موسكو قامت في عام 2006 ثم في عام 2009، بوقف تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عن طريق أوكرانيا إبان النزاع الذي حصل بينها وبين أوكرانيا وحول هذا السياق كتب "سايمون تاغليبيتيرا" في مذكرة نشرتها مؤسسة "بروغل" البلجيكية، بأن هذا العمل الذي قامت به روسيا كبّد الاقتصاد الأوروبي خسائر اقتصادية كبيرة، خاصة تلك الدول الواقعة جنوب شرق أوروبا والتي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي لتوليد الكهرباء وتوفير التدفئة للمنازل السكنية.
ورداً على أزمة الغاز الروسي، قامت الدول الأوروبية باتخاذ بعض استراتيجيات أمن الطاقة التي من شأنها أن تقلّل من اعتمادها على الغاز الروسي ويبدو أن اعتماد هذه الاستراتيجيات ضروري جداً لعدة أسباب، منها: 1). يؤمن الغاز حوالي ربع ما تحتاجه الدول الأوروبية من الطاقة. 2) تؤمن روسيا ما يقرب من ثلث غاز الدول الأوروبية. 3). بالمقارنة مع النفط أو الفحم الحجري، هناك حاجة إلى بنية تحتية قوية لنقل كميات كبيرة من الغاز في تلك المناطق.
وفي خضم الأزمة الأوكرانية التي حدثت عام 2014، قامت الدول الأوروبية بإنشاء مجتمع الطاقة الأوروبي وذلك لتقليل مخاوفها من الدوافع السياسية لروسيا التي كانت تهدد بخفض صادراتها من الغاز إلى جميع أنحاء القارة العجوز وكردة فعل روسيّة، قامت روسيا باتخاذ استراتيجية ترمي إلى الحفاظ على حصتها في سوق الغاز الأوروبية في المستقبل ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية، تسعى روسيا جاهدة في المرحلة الأولى إلى إنهاء تصدير الغاز إلى أوروبا عن طريق أوكرانيا بحلول عام 2020 ولهذا فلقد قامت شركة "غاز بروم" الروسية في عام 2015، بتوقيع عدة عقود مع شركات الطاقة الأوروبية من أجل البدء بمشروع "نورد ستريم 2" (السيل الشمالي 2) الذي يهدف إلى زيادة قدرة نقل الغاز لخط أنابيب "نورد ستريم 1" (السيل الشمالي 1) المتصل بين روسيا وألمانيا إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
وفي نفس الوقت قامت شركة "غاز بروم" الروسيّة بإطلاق خط أنابيب روسي مماثل جاء تحت اسم "ترك ستريم" في قاع البحر الأسود ولقد تم الإعلان عن مشروع خط أنابيب "ترك ستريم" خلال زيارة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لتركيا في ديسمبر 2014، ويعتبر هذا المشروع جزءاً من الاستراتيجية الروسية لإنشاء طرق بديلة عن أوكرانيا لتصدير الغاز إلى تركيا وباقي الدول الأوروبية ويتكون مشروع "ترك ستريم" من خطي أنابيب، كل منهما بطاقة تصديرية تبلغ 15.75 مليار متر مكعب في السنة وفي حين أن خط الأنابيب "1" مصمم فقط لتلبية احتياجات تركيا من الغاز، فإن خط الأنابيب "2" يهدف إلى تصدير الغاز إلى باقي دول أوروبا، ويذكر أنه بعد عام من بداية هذا المشروع، اكتمل بناء خط الأنبوب البحري "1" في 30 أبريل 2018، كما أن بناء خط الأنابيب "2" حقق تقدماً كبيراً وبناءً على ذلك، فمن المتوقع الانتهاء من كلا الخطين في نهاية عام 2019.
ولكن ووفقاً لقوانين الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاحتكار، فإن شركة "غاز بروم" الروسية، ليس لها الحق في إنشاء خط أنبوب لنقل الغاز إلى داخل دول الاتحاد الأوروبي ونتيجة لذلك، تجري هذه الشركة الروسية مشاورات مع مشغلي شبكة خطوط نقل الغاز الأوروبية لدراسة الخيارات والبدائل المحتملة لنقل 15.75 مليار متر مكعب من خط الأنابيب "ترك ستريم" إلى الأسواق الأوروبية.
والخيار الأول هو ربط تركيا بالنمسا عبر خط أنابيب يمر عبر بلغاريا وصربيا والمجر وهذا الطريق الروسي المقترح لخط الأنابيب، هو مسار "ساوث ستريم" (السيل الجنوبي) الذي لم توافق عليه المفوضية الأوروبية في عام 2014 ولتنفيذ هذا الاقتراح، يجب على بلغاريا وصربيا استئناف أنشطتهما بوصفهما عنصرين رئيسيين في خط أنابيب "ساوث ستريم".
والخيار الثاني يمكن ربط تركيا بإيطاليا عبر خط أنابيب من اليونان ولقد تم إجراء دراسة أولية حول جدوى إنشاء مثل هذا الأنبوب في عام 2003 من قبل شركات الطاقة اليونانية والإيطالية ولقد تم البدء بهذا المشروع، المسمى بـ" بوسيدون"، بعد الاتفاق الحكومي بين اليونان وإيطاليا في عام 2005.
والخيار الثالث هو استخدام خط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي "تاب" وهذا الخط الذي يبلغ طوله 800 كيلومتر، سيستطيع إيصال 10 مليارات متر مكعب من الغاز إلى إيطاليا في عام 2020 ويمكن زيادة سعة خط الأنابيب هذا لتصل إلى 20 مليار متر مكعب وذلك عن طريق إضافة محطة ضغط جديدة إليه ويمتلك خط الأنابيب هذا خاصية فيزيائية ذات تدفق عكسي، تمكّنه من نقل الغاز من إيطاليا إلى جنوب شرق أوروبا، إذا ما تم قطع الغاز أو تطلبت الحاجة إلى نقل سعة غازية أكبر وهذه المرونة التي يمتاز بها هذا الأنبوب تحوّله إلى خيار ممتاز يمكن للجانب الروسي الاستفادة منه بشكل جيد وفعّال.
على أي حال، ستعلن شركة "غاز بروم" الروسية عن قرارها قريباً، وذلك لأن الموعد الأول لنقل الغاز إلى أوروبا من خلال تركمانستان سوف يبدأ في أوائل عام 2020 وبالنظر إلى كل هذه الأحداث أصبح من الواضح بأن مشروع "ترك ستريم" صار المحور الرئيسي الذي تساوم به روسيا في لعبتها الكبيرة لنقل الغاز إلى الدول الأوروبية.