الوقت- شهدت السنوات الأخيرة تحولات لافتة في العلاقات بين السعودية والإمارات، اللتين كانتا تُعدّان شريكتين أساسيتين في التحالف العربي باليمن، غير أنّ التطورات الميدانية في جنوب اليمن، وخصوصًا في محافظتي حضرموت والمهرة، أظهرت وجود تنافس متصاعد بين الطرفين على النفوذ والسيطرة، فقد اتجهت الإمارات إلى تعزيز دور المجلس الانتقالي الجنوبي ودعم توجهه الانفصالي، بينما تسعى السعودية إلى الحفاظ على نفوذ في مناطق تحت مظلة الحكومة التي تدعمها، هذا التباين الاستراتيجي قاد إلى صدام غير مباشر بلغ ذروته مع الغارات الجوية السعودية الأخيرة على مواقع تابعة للقوى المدعومة إماراتيًا. ومع تزايد الاتهامات بشأن دور إماراتي في تقسيم دول المنطقة، يتضح أن المشهد تجاوز الخلاف التكتيكي ليقترب من صراع أعمق على شكل ومستقبل الإقليم.
جذور التنافس بين الرياض وأبوظبي في الجنوب اليمني
بدأت ملامح الاختلاف بين السعودية والإمارات في جنوب اليمن بالظهور منذ عام 2019، عندما نجح المجلس الانتقالي الجنوبي — المدعوم من أبوظبي — في تثبيت حضوره السياسي والعسكري في عدن ومناطق أخرى، فبينما رأت الرياض أن الأولوية هي دعم ما يسمى مجلس القيادة الرئاسي، اتجهت الإمارات نحو مشروع سياسي مختلف يقوم على تعزيز القوى الانفصالية في الجنوب.
هذا المسار أتاح لها التحكم بالموانئ الاستراتيجية مثل عدن وسقطرى، وتأمين النفوذ على خطوط الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب، وفي المقابل، سعت السعودية إلى ترسيخ حضورها في محافظات الشرق اليمني ولا سيما حضرموت والمهرة، معتبرةً أن فقدان السيطرة هناك يعني خسارة عمقها الجنوبي الاستراتيجي، ومع تراكم هذه التباينات، تحوّل التعاون العسكري المشترك إلى منافسة هادئة سرعان ما بدأت ملامحها العلنية تظهر على الأرض.
الغارات الجوية السعودية نقطة تحوّل مفصلية
جاءت الغارات الجوية التي نُسبت إلى السعودية على مواقع للمجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت لتكشف عمق الشرخ داخل التحالف، فقد استهدفت الضربات تشكيلات «النخبة الحضرمية» المموّلة إماراتيًا، وذلك بعد رفض الانسحاب من مناطق سيطرت عليها حديثًا. ورغم أنّ الرياض لم تؤكد رسميًا مسؤوليتها، فإنّ المجلس الانتقالي اعتبر ما جرى «اعتداءً مباشرًا».
يرى مراقبون أن الضربات كانت رسالة ضغط أكثر منها حملة عسكرية واسعة، لكنها في الوقت نفسه مثّلت إعلانًا واضحًا بأن السعودية لن تسمح بترسيخ مشروع انفصالي على حساب نفوذها. كما أن توقيت العملية - بالتزامن مع تصاعد الحديث عن تفاهمات إقليمية - عزز الانطباع بأن الرياض قررت الانتقال من الاحتواء الدبلوماسي إلى الرد العسكري المحدود، بذلك، دخلت العلاقة بين الحليفين السابقين مرحلة جديدة عنوانها الوضوح أكثر من المجاملة.
الاتهامات المتبادلة ودور الكيان الصهيوني في المشهد
في خضم هذه التطورات، برزت تصريحات لافتة لعقيد سعودي متقاعد اتهم فيها الإمارات بأنها أصبحت ذراعًا للكيان الصهيوني في المنطقة، وأنها تعمل على تقسيم دول عربية بينها السعودية نفسها، ورغم أن هذه التصريحات لا تعبّر رسميًا عن موقف الدولة السعودية، إلا أنها تُعد مؤشرًا على توجّه فكري آخذ في التوسع داخل النخب، كما اتُّهمت الإمارات بأنها تدعم تشكيلات مسلحة في السودان والصومال، وتدفع باتجاه الاعتراف بكيانات انفصالية على غرار «أرض الصومال»، هذه الاتهامات تتقاطع مع تقديرات ترى أن أبوظبي تستثمر في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة بما يضمن لها نفوذًا طويل الأمد. في المقابل، تحرص الإمارات على تقديم نفسها كشريك دولي في مكافحة الإرهاب وتأمين الملاحة البحرية، وهو خطاب يجد آذانًا صاغية في بعض العواصم الغربية.
جنوب اليمن ساحة رئيسية لحرب الوكالة
يُعد جنوب اليمن اليوم الساحة الأبرز التي تتصارع فيها مشاريع القوى الإقليمية، فالمجلس الانتقالي الجنوبي يضم عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين، ويتمتع بدعم مالي وعسكري من الإمارات، بينما تعتمد السعودية على القوات التي تدعمها وتحالف القبائل المحلية، هذا التوازن الهش يجعل أي تقدّم لطرف يقابله رد فعل من الطرف الآخر، ما يحوّل المناطق النفطية -خاصة حضرموت - إلى بؤر توتر دائمة، ومع أن كلا البلدين لا يرغبان في مواجهة مباشرة، فإن تناقض الأجندات يجعل التصادم غير المباشر أمرًا شبه حتمي، وفي ظل هذا الوضع، تستفيد قوى أخرى - بينها أنصار الله - من الانشقاقات داخل المعسكر المناهض لها، ما يزيد من تعقيد المشهد اليمني الذي دخل عامه العاشر من الصراع دون أفق واضح للحل.
الانعكاسات الإقليمية واحتمالات المستقبل
يمتد تأثير التوتر السعودي–الإماراتي إلى ما وراء الحدود اليمنية، فوجود مشروعين متنافسين يبعث برسائل متناقضة إلى المجتمع الدولي، كما أن الاتهامات المتعلقة بدور إماراتي في دعم الانفصال في دول أخرى تثير مخاوف من «عدوى التجزئة» في الإقليم، ومع ذلك، تبقى العلاقات الاقتصادية العميقة بين البلدين، ومظلتهما الأمنية المشتركة مع الولايات المتحدة، عوامل كابحة لأي صدام مباشر، من المرجح أن تتجه الرياض إلى تثبيت نفوذها في الشرق اليمني عبر دعم القوى القبلية، فيما تركّز الإمارات على مناطق الساحل والموانئ، وسيعتمد مستقبل الجنوب اليمني على قدرة الأطراف المحلية على التفاهم، أو على العكس، استمرارها في لعب دور البيادق في صراع إقليمي أكبر.
تصريحات العقيد السعودي المتقاعد
في خطوة نادرة وكاشفة، أكد العقيد السعودي المتقاعد جاسم أبو عبدالرحمن أن الإمارات تعمل كأداة للكيان الصهيوني بهدف تقسيم وإضعاف الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، واعتبر أن تدخلاتها في اليمن، الصومال، والسودان ليست مجرد دعم للقوى المحلية، بل جزءاً من مشروع أوسع لإضعاف الحكومات المركزية وفرض نفوذ خارجي بعيد عن مصالح الشعوب.
وأشار العقيد إلى أن الإمارات تستخدم أدوات إعلامية ضخمة، واستثمارات مالية في وسائل الإعلام الغربية، لتسويق فكرة الانفصال وتأسيس كيانات جديدة، كما حدث في منطقة «أرض الصومال» المعترف بها مؤخرًا من قبل "إسرائيل"، هذه التصريحات تبرز حجم الخطر الذي تشكله السياسات الإماراتية على وحدة الدول العربية واستقرارها، وتكشف عن رغبة واضحة في إعادة تشكيل الخارطة السياسية الإقليمية بما يخدم أجندات خارجية، على حساب سيادة الدول ومصالح شعوبها.
