الوقت- مع الدقائق الأولى لهطول الأمطار على قطاع غزة هذا الشتاء، لم يستقبل النازحون المياه كعلامة بركة أو بشارة موسمية معتادة، بل دخلوا في فصل جديد من المعاناة، حيث تحولت المخيمات إلى برك طينية واسعة، وغرقت آلاف الخيام التي بالكاد كانت تؤوي من تبقى من العائلات التي شردتها حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عام، لم تكن الليلة الماطرة مجرد حدث طبيعي؛ بل كانت كارثة إنسانية كشفت هشاشة الحياة في مراكز النزوح، وأظهرت حجم الألم الذي يعيشه أكثر من مليون ونصف المليون إنسان يعيشون تحت خيام مهترئة لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء.
خيام ممزقة.. وأرض طينية تبتلع الأقدام
مع أولى قطرات المطر، بدأت عشرات الخيام تتهاوى تحت ثقل المياه، وانكشفت جوانب أخرى منها بفعل الرياح العاصفة، آلاف العائلات وجدت نفسها محاصرة بالمياه والطين، بعد أن جرفت السيول الأرض الرملية التي نُصبت عليها الخيام على عجل، والتي لم تُعدّ بأي من شروط السلامة أو الحماية.
تُظهر الصور الواردة من رفح ودير البلح وخان يونس مخيمات واسعة غمرتها المياه بشكل كامل، فيما كانت الخيام تغرق من الداخل، وتترسب الطين على البطانيات الرطبة والأغراض القليلة التي حملتها العائلات معها خلال رحلات النزوح المتكررة، الأطفال المحيطون بالبرك الطينية كانوا يحاولون رفع أطراف الخيام أو دفع المياه بعصي خشبية، بينما كان الكبار يحاولون بأي وسيلة حماية ما يمكن حمايته من الملابس أو الطعام أو الوقود القليل الذي يحتفظون به للطهي.
الخيمة التي كانت قبل أسابيع الملاذ الوحيد، لم تعد قادرة على توفير أي نوع من الأمن أو الحماية؛ فالماء المتسرب من السقف ومن فتحات الجوانب جعل النوم مستحيلاً، وجعل البقاء داخل الخيمة شبه خطر بسبب احتمالات الانهيار أو البلل الكامل في ظل درجات حرارة متدنية ليلاً.
كارثة مركّبة: حرب وجوع ومرض… ثم شتاء بلا رحمة
لطالما شكّل الشتاء تحدياً لسكان غزة في السنوات السابقة، لكنّ الأمر هذه المرة يختلف جذرياً، فالحرب الإسرائيلية الغاشمة التي دمرت البنية التحتية للقطاع بالكامل، بما تشمل شبكات الصرف الصحي، والطرقات، ومحطات الكهرباء، ومراكز الإيواء الأصلية، جعلت وصول الشتاء كارثة إضافية في سلسلة كوارث.
لقد جاء المطر ليعمّق جراح الناس الذين يعانون أساساً من انعدام الغذاء، وندرة الدواء، وانتشار الأمراض، وغياب المرافق الصحية. المستشفيات الميدانية أصلاً تعمل فوق طاقتها، والأمراض الجلدية والمعدية تنتشر بسرعة في صفوف النازحين، ليأتي الطين والمياه الراكدة ويحول المخيمات إلى بيئة مثالية للأوبئة.
في مخيمات مكتظة لا تتوافر فيها شبكات صرف صحي أو تهوية جيدة، يصبح انتشار الأمراض مسألة وقت فقط. ومع وجود آلاف العائلات في خيام متلاصقة، فإن أي تلوث بسيط في المياه أو تكدّس للنفايات قد يؤدي إلى كوارث صحية كبرى، وخاصة أن معظم الأطفال يعانون بالفعل من سوء تغذية حاد وضعف المناعة.
بقايا ذخائر الاحتلال تعمق الكارثة
ومع دخول الشتاء، بات الحطب هو المصدر الوحيد للتدفئة وللطهي، في ظل غياب الغاز والكهرباء. وهذا البحث المحموم عن مصادر بديلة للطاقة أدّى إلى وقوع إصابات عديدة بين الفلسطينيين، إذ اضطر كثيرون إلى الخروج مسافات طويلة لجمع الحطب من المناطق المجاورة للمخيمات، بعضها قريب من أراضٍ ملوثة بالذخائر غير المنفجرة التي تركها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لقد سجلت منظمات الإغاثة حالات لبتر أطراف وإصابات خطيرة نتيجة انفجار ذخائر خلال محاولات النازحين جمع الحطب أو محاولة تثبيت الخيام في مناطق جديدة. الأطفال هم الأكثر عرضة لهذه الأخطار؛ فهم يرافقون ذويهم أو يتحركون بمفردهم بين الأنقاض، ما جعل من كل خطوة داخل القطاع مغامرة خطرة.
ازدحام خانق.. ومخيمات تحولت إلى بؤر للوباء
اللقطات التي خرجت من بعض المخيمات تُظهر صفوفاً لا نهاية لها من الخيام المتلاصقة، التي نصبت فوق أرض زلقة بعد أن غمرتها السيول، هذه الكثافة السكانية الهائلة في مساحة ضيقة تمثل قنبلة موقوتة صحية، فأي مرض ينتقل بالهواء أو الماء سيجد أرضاً خصبة للانتشار، وخاصة في ظل انعدام اللقاحات للأطفال وتوقف معظم الخدمات الطبية الأساسية.
الأطباء العاملون في المستشفيات الميدانية يتحدثون عن ارتفاع كبير في حالات التهابات الجهاز التنفسي، وحالات الإسهال الشديد، والأمراض الجلدية مثل الجرب، إضافة إلى تفاقم الإصابات الناتجة عن البرد الشديد الذي يضرب أجساد الأطفال الهزيلة، ومع عدم توافر الملابس الشتوية والبطانيات الكافية، يزداد الخطر على كبار السن والرضّع الذين لا يملكون القدرة على مقاومة البرد أو الأمراض.
الغارات الإسرائيلية تفاقم المعاناة
في ذروة هذه المعاناة، لم تتوقف الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مناطق عديدة في جنوب القطاع، وخصوصاً خان يونس ورفح، حيث تتكدس معظم مخيمات النزوح، مشاهد الغارات التي تتزامن مع هطول الأمطار خلقت حالة من الهلع بين النازحين الذين يجدون أنفسهم بين خيارين مرّين: البقاء في خيام مهددة بالغرق والانهيار، أو الفرار ليلاً تحت المطر إلى منطقة قد تكون مستهدفة بالقصف.
لم يترك الاحتلال للفلسطينيين أي مساحة آمنة، فحتى المناطق التي تم توجيه النازحين إليها باعتبارها “آمنة” تتعرض للقصف بين الحين والآخر، ما يضاعف مستويات الخوف والقلق لدى العائلات التي فقدت القدرة على الحركة أو تغيير أماكنها في ظل الظروف المناخية السيئة.
بين الطين والبرد.. طفولة بلا دفء ولا أمان
الأطفال هم الوجه الأكثر وضوحاً لهذه الكارثة، فمظاهر البرد القارس بادية على وجوههم، وأقدامهم الحافية أو المغطاة بأحذية ممزقة تغوص في الطين، بينما يحاولون الالتصاق ربما بنار صغيرة أشعلها الكبار داخل برميل صدئ، في هذه الظروف، يصبح اللعب ترفاً مفقوداً، والتعليم حلماً بعيداً، والطفولة نفسها محاصرة بالخوف والجوع والمرض.
وتشير تقارير منظمات دولية إلى أن الأطفال في غزة يواجهون أسوأ أزمة إنسانية في العصر الحديث، حيث يعاني أكثر من 90٪ منهم من صدمات نفسية شديدة، بينما يعيش معظمهم في خيام غير صالحة للعيش، ولا يتوافر لهم أي دعم نفسي أو اجتماعي.
العائلات بين خيارين: خيمة مُمزقة… أم العراء؟
نتيجة غرق الخيام، اضطرت الكثير من العائلات إلى الخروج منها والاحتماء بأي ورقة نايلون أو لوح خشبي أو جدار مبنى مهدّم، بعض العائلات لجأت إلى إشعال النيران داخل الخيمة لإزالة الرطوبة، وهو ما أدى إلى حوادث احتراق مأساوية أودت بحياة أطفال، ومع تواصل المطر، باتت الخيمة نفسها عائقاً وخطراً، بينما لا يوجد بديل آخر.
إن بقاء هذه العائلات في العراء، تحت المطر والبرد، يكشف حجم العجز الدولي تجاه أزمة غزة، حيث لم تُقدَّم أي حلول فعلية لتحسين أوضاع المخيمات أو توفير مأوى حقيقي للنازحين.
إنذار بكارثة كبرى إذا استمر المنخفض الجوي
المختصون يحذرون من أن المنخفض الجوي الأول هذا الشتاء ليس سوى بداية، فإذا استمرت الأمطار بالوتيرة نفسها أو ازدادت، فقد تتحول العديد من المخيمات إلى مناطق غير صالحة للعيش تماماً، ومع غياب معدات الضخ أو أدوات البناء أو مواد العزل، ستبقى الخيام عرضة للغرق والانهيار.
أما السيول فقد تؤدي إلى تلوث مصادر المياه الشحيحة أساساً، ما ينذر بانتشار أمراض معدية خطيرة مثل الكوليرا أو الالتهابات المعوية الحادة، وهو سيناريو كارثي في بيئة تعاني حصاراً خانقاً وانعدام المستلزمات الطبية.
بين السيول والحصار… غزة تصمد وحدها
تظهر المأساة التي خلفتها الأمطار في مخيمات النزوح أن الفلسطينيين ليسوا فقط ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية، بل ضحايا لغياب العالم أيضاً، فقد اجتمعت عليهم ثلاثة كوارث كبرى: الدمار، والجوع، والمرض، ثم جاء الشتاء ليكشف أن الخيمة ليست بيتاً، والبرد ليس مجرد طقس، والمطر ليس نعمة، عندما تسحق الحرب كل مقومات الحياة.
ورغم كل هذا، تبقى مشاهد صمود الناس في غزة -وهم يحاولون تجفيف خيامهم، وتدفئة أطفالهم، وحماية بعضهم البعض- شهادة على إرادة لا تنكسر، وشعب يدافع عن حقه في الحياة حتى آخر قطرة مطر.
