الوقت- بعد مرور عامين على الحرب الضارية التي لم تترك حجراً على حجر في قطاع غزة، تقف المرأة الفلسطينية اليوم شاهدة على مأساة مركّبة تتجاوز حدود الاحتمال البشري. حربٌ لم تقتصر على تدمير البنية التحتية والمنازل والمستشفيات، بل امتدت إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وتعطيل مسارات الحياة كافة، حتى غدت تفاصيل العيش اليومية معركةً للبقاء. وفي قلب هذا الركام، لم ترفع النساء الفلسطينيات راية الاستسلام، بل أظهرن صموداً أسطورياً أصبح رمزاً عالمياً للمقاومة الإنسانية في وجه الفناء.
امرأة في مواجهة الحرب والجوع والتهجير
منذ اندلاع الحرب قبل عامين، كانت المرأة الفلسطينية أول من تلقى الصدمة وأول من حمل العبء. فمع اشتداد القصف ونزوح أكثر من مليونَي إنسان داخل قطاع لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، وجدت النساء أنفسهن في قلب الكارثة: أمهات يهرعن لحماية أطفالهن تحت الأنقاض، وجدّات يَشدُدن أزر العائلات المشتتة، وفتيات اضطررن لتحمل مسؤوليات تفوق أعمارهن.
تشير تقارير وزارة التربية والتعليم في غزة إلى أن الآلاف من الطالبات تركن مقاعد الدراسة بسبب النزوح أو لتولّي أعباء الحياة اليومية بعد فقدان أحد أفراد الأسرة أو تهدم البيت. هذا الانقطاع القسري عن التعليم لا يعني فقط خسارة فرصة أكاديمية، بل هو أيضاً إغلاق لباب الأمل أمام جيلٍ كاملٍ من النساء اللواتي كُنّ يحلمن بمستقبل مختلف، أكثر عدلاً وأماناً.
لكن رغم كل ذلك، تظهر قصص الفتيات الغزّيات كدروس في الإرادة. فبعضهن واصلن الدراسة من خيام النزوح، يكتبن على دفاتر مهترئة أو على بقايا كرتون، متحدّيات الجوع والخوف، ومصرّات على أن التعليم هو شكل من أشكال المقاومة.
فقدان الأمان... الأم والأخت والزوجة والابنة
من الصعب أن تجد امرأة في غزة لم تفقد أحداً من عائلتها. فخلال عامين من القصف المتواصل، أصبحت كل امرأة فلسطينية تقريباً أمّ شهيد أو أخت شهيد أو زوجة شهيد أو ابنة شهيد. هذه المفردة – "الشهيد" – التي تحولت من رمز وطني إلى واقعٍ يومي، لم تَعُد فقط عنواناً للتضحية، بل صارت مرادفاً للحياة ذاتها في غزة.
المرأة التي فقدت زوجها تجد نفسها فجأة المعيل الوحيد لأسرة تضم أطفالاً صغاراً، دون عمل أو مأوى أو دعم نفسي. كثيرات اضطررن لبيع ما تبقّى من مقتنياتهن لتوفير الطعام، فيما أخريات التحقن بصفوف المتطوعات في مراكز الإغاثة، يحاولن تخفيف آلام الآخرين رغم جراحهن الشخصية. إنها الأنوثة في أقسى تجلياتها: مزيج من الحنان والحزم، من الدموع والقوة، من الأمومة والمقاومة.
النساء الحوامل... وجع مضاعف ومعاناة صامتة
من بين أكثر الفئات تضرراً في الحرب، تأتي النساء الحوامل والمرضعات في مقدمة من عانين بصمتٍ لا يسمع صداه أحد. فالقصف المستمر ونقص الغذاء وانعدام الدواء جعل من الحمل والولادة مهمة شبه مستحيلة. تقارير طبية تشير إلى ارتفاع معدلات الولادات المبكرة وسوء التغذية لدى الحوامل بسبب انعدام البروتينات والأدوية والمكملات الغذائية الأساسية.
وحتى بعد الولادة، تواجه الأمهات معضلة الرضاعة في ظل الجوع والعطش. إذ تروي إحدى الأمهات أن "اللبن جفّ من صدري لأنني لم أتناول شيئاً منذ يومين"، في شهادة تختصر مأساة آلاف النساء اللواتي فقدن القدرة على إرضاع أطفالهن في ظل ندرة الحليب الصناعي وارتفاع أسعاره الجنونية في السوق السوداء.
برد الشتاء القارس زاد الصورة قسوة، فالنساء يلدن في خيام بلا تدفئة ولا كهرباء، وأطفالهن يرتجفون من البرد والجوع معاً. إنها مأساة مزدوجة: الحياة التي تبدأ في قلب الموت، والأمومة التي تتحول إلى عبء من الألم بدل أن تكون نبعاً من الطمأنينة.
المتطوعات والعاملات في الإغاثة... واجهة الصمود النفسي
ورغم كلّ هذا الظلام، كانت هناك فئة من النساء قررت أن تقف في الصفوف الأمامية للمساعدة. المتطوعات والممرضات والعاملات في مؤسسات الإغاثة قدّمن وجهاً آخر من وجوه البطولة الفلسطينية. وسط الركام، كنّ يوزعن الطعام، يضمدن الجراح، ويستقبلن النازحين في المدارس والمساجد والمستشفيات الميدانية.
لكنّ هذه المهمة الإنسانية كانت مكلفة نفسياً. فبحسب الأخصائية النفسية مها خليل، فإن "أكثر من 80% من العاملات في فرق الإغاثة يعانين أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة المشاهد اليومية المروعة وفقدان الزملاء والأقارب، وغياب أي منظومة دعم نفسي أو ضمانات حماية".
تضيف خليل أن بعض المتطوعات بدأن يعانين من الاحتراق النفسي بعد شهور من العمل المتواصل في بيئة مليئة بالموت والدمار، دون أي تفريغ نفسي أو استراحة إنسانية.
كما تسجّل تقارير أممية ارتفاعاً ملحوظاً في العنف القائم على النوع الاجتماعي، سواء داخل المخيمات أو في البيوت المتهالكة، نتيجة الضغوط الاقتصادية والنفسية التي يعيشها المجتمع. ومع غياب مؤسسات الحماية الرسمية، تجد المرأة نفسها مجدداً في مواجهة الخطر وحيدة.
التعليم والعمل... أبواب مغلقة أمام الأمل
في غزة اليوم، لم تعد فرص العمل متاحة إلا للنزر اليسير. فالقصف دمّر آلاف المنشآت الاقتصادية، وأغلق الطرق والمصانع والأسواق. النساء اللواتي كنّ يعملن في مجالات التعليم والتمريض والحرف اليدوية وجدن أنفسهن بلا مصدر دخل. حتى المبادرات النسوية الصغيرة التي كانت تشكل طوق نجاة في الفترات السابقة انهارت تحت وطأة الحصار وانقطاع الكهرباء وانعدام المواد الخام.
من ناحية أخرى، تشير بيانات وزارة التربية والتعليم إلى أن أكثر من 60% من الفتيات الجامعيات اضطررن لتجميد دراستهن، إما بسبب نزوح الجامعات أو لانقطاع الإنترنت والكهرباء. وبهذا، تُغلق أبواب الحلم أمام جيلٍ كامل من النساء اللواتي كنّ يأملن أن يكنّ نواة التغيير في المجتمع الفلسطيني.
إلا أن كثيرات منهن رفضن الاستسلام، فأنشأن منصات تعليمية عبر الهاتف المحمول، وبدأن بتنظيم دروس تطوعية للأطفال النازحين. هكذا، أعادت المرأة الفلسطينية تعريف التعليم كفعل مقاومة لا يقلّ شرفاً عن حمل السلاح.
صمود نساء غزة... بين الألم والأمل
رغم الخراب الممتد، يبقى صمود المرأة الفلسطينية علامة فارقة في تاريخ الشعوب التي قاومت المحو والإبادة. فهذه المرأة لم تكتفِ بالبقاء، بل صارت رمزاً للأمل في بيئةٍ يخيّل للمرء أنها فقدت كل أشكال الحياة.
هي الأم التي دفنت أبناءها بيديها ثم عادت لتعد الطعام لأطفال الحي، وهي الممرضة التي تواصل إسعاف الجرحى رغم فقدانها أفراد عائلتها، وهي الطالبة التي تكتب أطروحتها تحت أزيز الطائرات، وهي الأرملة التي تبتسم لأطفالها رغم الجوع والبرد.
لقد أثبتت الحرب أن المرأة الفلسطينية ليست مجرد ضحية، بل هي محور البقاء في مجتمعٍ يتعرض لأبشع أشكال الحصار والتدمير. إنها القادرة على إعادة تنظيم الحياة من تحت الأنقاض، وعلى تحويل الألم إلى طاقة للمقاومة.
العالم الصامت والعدالة الغائبة
في المقابل، يظلّ العالم صامتاً أمام هذه المأساة الممتدة. فبينما تُنشر التقارير الحقوقية والبيانات الأممية، لا يُترجم ذلك إلى أي فعل حقيقي يوقف نزيف النساء والأطفال في غزة. بل إنّ استمرار الحصار ومنع المساعدات يعمّق معاناة النساء أكثر، ويدفعهن نحو مزيد من العزلة واليأس.
لكن ما لا يفهمه العالم هو أن كل يوم تصمد فيه امرأة فلسطينية هو هزيمة جديدة لآلة الحرب التي أرادت قتل الأمل. فالصمود النسوي الفلسطيني لم يعد مجرد فعل بقاء، بل بيان حياة في وجه مشروع الإبادة.
المرأة الفلسطينية... صوت الحياة النابض رغم الألم
بعد عامين من الحرب، ما زالت المرأة الفلسطينية تمشي على ركام المدن وتزرع في قلبها بذور الغد. لقد تحولت من ضحية إلى شاهدة على جريمة القرن، ومن شاهدة إلى فاعلة تُصرّ على أن تبقي الذاكرة حيّة. في كل خيمة من خيام النزوح، وفي كل ركام يعلوه الغبار، هناك امرأة تحيك من الألم قصة وطن لا يُهزم.
إن صمود نساء غزة ليس حدثاً عابراً، بل هو معركة أخلاقية وإنسانية تذكّر العالم بأن الكرامة لا تُقصف، وأن الأم الفلسطينية التي تُرضع طفلها وهي جائعة، وتعلّمه كيف يصلي تحت صوت الصواريخ، هي أيقونة المقاومة الحقيقية.
فمن رحم هذا الألم، تولد إرادة الحياة، ومن بين الدمار تنبعث أنوثة قادرة على إعادة بناء الإنسان قبل الحجر.