الوقت- منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر 2023، وما تبعها من تجدد للعمليات في مارس 2025، أخذت المقاومة الفلسطينية في تطوير أساليبها القتالية، وتصعيد عملياتها ضد القوات "الإسرائيلية"، الأمر الذي وضع جيش الاحتلال في حالة استنزاف يومي على المستويات البشرية والعسكرية والنفسية. شهدت الأسابيع القليلة الماضية تكثيفًا لافتًا في الكمائن والعمليات النوعية، تم تنفيذها في مناطق متعددة شمال وجنوب القطاع، وأفضت إلى مقتل وإصابة عدد كبير من الجنود والضباط "الإسرائيليين"، بينهم عناصر من وحدات النخبة. هذا التصاعد في الأداء الميداني للمقاومة لا يُعد فقط انعكاسًا على فشل الجيش "الإسرائيلي" في تحقيق أهدافه، بل يشير إلى تطور نوعي في قدرة الفصائل الفلسطينية على التأقلم مع ظروف المعركة، وفرض معادلات جديدة من الردع. في ظل تراجع المعنويات داخل صفوف الاحتلال، وتزايد أعداد الإصابات النفسية في صفوف جنوده، يبدو أن الكفة بدأت تميل تدريجيًا لصالح المقاومة في حرب الإرادة والبقاء.
تطور تكتيكات المقاومة وضرباتها النوعية
شكلت العمليات الأخيرة للمقاومة الفلسطينية تحولًا مهمًا في المشهد الميداني، خاصة مع اعتمادها المتزايد على الكمائن المركبة وضربات التمويه والتشتيت. ففي واحدة من أعقد العمليات خلال الحرب، تم استهداف مركبة "إسرائيلية" مدرعة بعبوات ناسفة، ثم إيقاع قوة الإنقاذ التابعة لوحدة "يهلوم" النخبوية في كمين ناري أدى إلى مقتل 5 جنود على الأقل وإصابة آخرين بجراح بليغة. لا تنبع أهمية هذه العملية من حصيلتها البشرية فقط، بل من دلالتها العسكرية التي تشير إلى إتقان المقاومة لتكتيكات الحرب المتقدمة، وقدرتها على استغلال الجغرافيا والتحصينات لفرض الخسائر على جيش مزود بأحدث تقنيات الرصد والتتبع. الأهم من ذلك أن المقاومة باتت تختار توقيت العمليات بدقة، حيث نفذت خلال أسبوع واحد ثلاث عمليات خلال ثلاث ساعات فقط ضد وحدة "إيغوز" الخاصة، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، وأربك القيادة العسكرية "الإسرائيلية" في الشجاعية. هذه القدرة على المواجهة المتواصلة والسريعة تعكس حجم الجاهزية الميدانية للفصائل، وتبرز تطورًا لافتًا في التخطيط والقيادة والسيطرة. إنها حرب عقول قبل أن تكون حرب سلاح، والمقاومة تُظهر مرونة فائقة، وكفاءة متقدمة، رغم الحصار والإمكانات المحدودة.
الأثر الميداني على جيش الاحتلال وتراجع قدراته
مع استمرار العمليات الميدانية المتصاعدة، يواجه جيش الاحتلال "الإسرائيلي" تحديات متزايدة تهدد فاعليته القتالية وتماسكه الداخلي. الخسائر البشرية المتزايدة – والتي بلغت 887 قتيلاً منذ بداية الحرب، منهم 443 خلال العمليات البرية في غزة – أضحت مؤشرًا على عمق الأزمة التي يواجهها الجيش. الأهم من ذلك أن الخسائر لا تقتصر على الجانب العددي، بل تمتد إلى الجبهة النفسية والمعنوية، حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 7300 جندي باتوا يعانون من اضطرابات نفسية نتيجة الصدمة والتوتر الميداني، ما يعني أن جيش الاحتلال لا يخسر جنوده في ساحة المعركة فحسب، بل يخسر قدرتهم الذهنية على مواصلة القتال. كما أن فشل الوحدات الخاصة، مثل "يهلوم" و"إيغوز"، في حماية نفسها من كمائن المقاومة يضع علامات استفهام كبرى حول جاهزية وتكتيكات جيش لطالما تفاخر بتفوقه النوعي. يضاف إلى ذلك، تراجع ثقة "المجتمع الإسرائيلي" بقيادته السياسية والعسكرية، في ظل اتساع فجوة الأهداف المعلنة والنتائج المتحققة على الأرض. ومع استنزاف الموارد والطاقات، يبدو أن "إسرائيل" تدخل في نفق عملياتي طويل، لا تمتلك فيه المبادرة ولا الأفق الاستراتيجي، خاصة في ظل الصمود الشعبي الغزي، ومرونة الميدان المقاوم.
المقاومة كفاعل استراتيجي وتغير معادلات القوة
لم تعد المقاومة الفلسطينية مجرد فصيل يقاتل من أجل البقاء، بل أصبحت فاعلًا استراتيجيًا يعيد رسم موازين القوى في الإقليم. فالعمليات النوعية الأخيرة كشفت عن تطور كبير في بنيتها العملياتية، وقدرتها على المبادرة والتأثير، وليس فقط رد الفعل. لقد تمكنت المقاومة، رغم الحصار والتضييق، من فرض معادلة "الكمين مقابل الاجتياح"، و"الاستنزاف مقابل الغطرسة"، مما جعل كل تحرك للجيش "الإسرائيلي" داخل غزة محفوفًا بالمخاطر. ولم تعد المدن كخان يونس والشجاعية ساحة مفتوحة، بل تحولت إلى بيئات عدائية بالنسبة للجنود "الإسرائيليين"، الذين يواجهون فيها أشكالاً متقدمة من حرب العصابات. هذا التحول النوعي، إلى جانب الالتفاف الشعبي حول المقاومة، يرسل رسالة واضحة مفادها أن المشروع الاستعماري الصهيوني بات يعاني أزمة استراتيجية حقيقية. كما أن المقاومة أبدت قدرة على الصمود والتجدد، ولم تنهكها الحرب كما أراد صناع القرار في تل أبيب، بل عززتها وجعلتها أكثر تماسكًا. ومن هنا، فإن ما نشهده ليس مجرد عمليات ميدانية، بل إعادة تموضع استراتيجي لمكانة غزة كمركز مقاومة، قادر على فرض كلفة مستدامة على الاحتلال، وشل حركته، ومنع تحقيقه لأي مكاسب سياسية أو عسكرية ذات مغزى.
الأثر النفسي داخل صفوف الجيش "الإسرائيلي"
من بين أكثر ما يقلق الدوائر العسكرية "الإسرائيلية" اليوم هو التدهور النفسي المتسارع في صفوف الجنود. وفق إفادات رسمية من قسم إعادة التأهيل في الجيش، فإن نحو 16,500 جندي أصيبوا خلال الحرب، بينهم 7,300 يعانون من أعراض نفسية مثل القلق، الاكتئاب، والأرق المزمن. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم المعاناة الفردية، بل تكشف عن أزمة بنيوية في جاهزية الجيش على المدى المتوسط والبعيد. فالجنود العائدون من غزة وبخاصة من مناطق الاشتباك المباشر كخان يونس والشجاعية يحملون معهم ليس فقط إصابات جسدية، بل ندوبًا نفسية عميقة تؤثر على استعدادهم للعودة إلى الجبهات. كما أن قلة من الجنود باتوا مستعدين لتنفيذ أوامر التوغل في أحياء تُعد "محرقة للجنود" كما وُصفت في الإعلام العبري. هذه الانهيارات المتكررة تؤثر بدورها على وحدات النخبة، التي يُفترض أن تكون الأكثر انضباطًا واستعدادًا. ومع تزايد أعداد الجنود المنسحبين نفسيًا من ساحة القتال، تصبح قدرة الجيش على تنفيذ عملياته محدودة، بل ومهددة بالفشل. إن المعركة في غزة، إذًا، لم تعد معركة مدافع وصواريخ فقط، بل معركة إرادة وصبر طويل، وفي هذا الميدان تبدو المقاومة أكثر رسوخًا وثقة، مقابل جيش منهك تتآكل قدرته من الداخل.
في الختام،إن قراءة متأنية لمجريات الحرب في غزة، تكشف بوضوح عن اختلال المعادلات التقليدية التي حكمت الصراع لسنوات. فالمقاومة الفلسطينية، رغم الحصار الخانق والعدوان المتواصل، أظهرت قدرة فائقة على التكيف مع ظروف الحرب، بل وتحقيق إنجازات نوعية أربكت منظومة الردع "الإسرائيلية". من ناحية أخرى، فإن جيش الاحتلال، ورغم تفوقه العددي والتكنولوجي، بات يعاني من أزمة مركبة: استنزاف بشري، ارتباك تكتيكي، وتآكل نفسي عميق. لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلنة، سواء بإنهاء المقاومة أو فرض شروطها على سكان غزة، فيما تمكنت المقاومة من الصمود، وتوسيع رقعة المواجهة، وفرض معادلات جديدة. وفي حين ينظر المجتمع الدولي إلى غزة بوصفها ضحية لآلة الحرب، فإن الداخل الفلسطيني ينظر إليها اليوم بوصفها مركزًا للمقاومة والكرامة الوطنية. وهكذا، فإن استمرار العمليات النوعية، وتآكل معنويات العدو، يؤشران إلى تحول عميق في ميزان القوى، قد يكون البداية نحو واقع جديد يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، ويؤكد أن الشعوب لا تُهزم حين تملك الإرادة، ولو فقدت كل أدوات القوة المادية.