الوقت- في قلب مدينة غزة المدمّرة، حيث تحوّلت المستشفيات من ملاجئ للشفاء إلى أهداف عسكرية، تهاوت جدران المستشفى المعمداني على أمل مئات المرضى والجرحى، لم يكن القصف الإسرائيلي فجر الأحد على مبنى الطوارئ في المستشفى سوى تجسيد صارخ لحرب لا تفرّق بين مقاتل ومريض، ولا بين غرفة إنعاش وموقع عسكري، ومع خروج هذا المستشفى عن الخدمة، تُكتب فصول جديدة من معاناة إنسانية يعيشها القطاع المُحاصر، حيث باتت الرعاية الصحية حلمًا بعيدًا، والصمت الدولي شريكًا في الجريمة.
ولم يكن استهداف المستشفى المعمداني في مدينة غزة فجر الأحد سوى حلقة جديدة في سلسلة ممنهجة من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق البنية التحتية الصحية في قطاع غزة منذ بدء عدوانها الشامل في أكتوبر 2023.
الغارة الجوية التي أصابت مبنى المستشفى بصاروخين أدت إلى تدمير أقسام الطوارئ والاستقبال والمختبر والصيدلية، ما أدى إلى إخراجه عن الخدمة بالكامل، وترك مئات المرضى والجرحى يفترشون الشوارع دون علاج أو مأوى طبي.
ضربة قاضية لمنظومة صحية تحتضر
المستشفى المعمداني، المعروف أيضًا بالمستشفى الأهلي، كان آخر ما تبقى من المنشآت الطبية العاملة في محافظة غزة، ويضم جهاز التصوير الطبقي الوحيد في منطقتي غزة والشمال، بعد استهدافه، قال الدكتور محمد زقوت، المدير العام للمستشفيات في القطاع: إن القطاع الصحي ينهار بالكامل، وإن الاحتلال يرفض بشكل متعمّد السماح بدخول أي أجهزة أو معدات طبية رغم النداءات المتكررة من منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر.
الدكتور خليل الدقران، المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، وصف ما حدث بأنه "حكم بالإعدام على المرضى والجرحى"، بينما أكّد الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، أن أكثر من 120 مريضًا كانوا في المستشفى لم يعد لهم مكان بعد الدمار، أما مدير المستشفى المعمداني، الدكتور فضل نعيم، فصرّح أن ما جرى هو "جريمة ضد الإنسانية"، مضيفًا: "الاحتلال يبعث برسالة واضحة: لا مكان آمن في غزة".
ادعاءات واهية لتبرير الجريمة
كالعادة، حاولت قوات الاحتلال تبرير القصف بزعم وجود "نشاطات مسلحة" داخل المستشفى، لكن هذه المزاعم نُفيت بشدة من قبل الكادر الطبي، حيث أكّد الدكتور عصام أبو عجوة، اختصاصي الجراحة العامة بالمستشفى، أنه "لم يكن هناك أي وجود لمسلحين في المكان، وأن الغارة استهدفت منشأة مدنية وطبية خالصة".
استهداف ممنهج للبنية التحتية الصحية
حسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة، فإن الاحتلال دمر عمدًا 34 مستشفى في القطاع منذ بدء الحرب، في خطة ممنهجة تهدف إلى شلّ النظام الصحي بالكامل، ومنذ أكتوبر، شهد القطاع استهدافًا لمستشفيات كبرى كمجمع الشفاء، ومجمع ناصر، والمستشفى الإندونيسي، إلى جانب مراكز رعاية أولية وسيارات إسعاف.
مواقف دولية وأممية باهتة
رغم أن القانون الدولي الإنساني يوفّر حماية خاصة للمؤسسات الطبية، لم تتخذ الأمم المتحدة ولا المنظمات الدولية أي خطوة حقيقية لوقف هذا الاستهداف، قالت منظمة الصحة العالمية مرارًا: إن "النظام الصحي في غزة ينهار"، لكنها لم تنجح في فرض حماية للمستشفيات أو ضمان دخول معدات وأدوية طبية.
أما حركة حماس فقد اعتبرت في بيان لها أن ما جرى هو جريمة حرب جديدة بغطاء وتواطؤ أمريكيين، مشيرة إلى أن الصمت الدولي وتوفير واشنطن الغطاء السياسي والعسكري هما ما يمنحان كيان الاحتلال الإسرائيلي الضوء الأخضر للاستمرار في هذه الانتهاكات.
وأضافت الحركة -في بيان- إن هذه الجريمة تؤكد أن الاحتلال يعمل بغطاء وتواطؤ أمريكيين في ظل تعطيل كامل لأدوات المحاسبة الدولية كافة.
وحمّلت الحركة الإدارة الأمريكية المسؤولية كاملة عن جريمة الاحتلال الوحشية في مستشفى المعمداني، إذ إنها لم تكن لتقع لولا الضوء الأخضر الممنوح لها من واشنطن، وفق تعبيرها.
ودعت حماس المجتمع الدولي والأمم المتحدة والدول العربية والإسلامية إلى التحرك الفوري لوقف هذه الانتهاكات الفاضحة للقوانين الدولية.
من جانبها، قالت حركة الجهاد الإسلامي: إن "الجريمة الشنيعة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق المستشفى المعمداني هي صعود جديد نحو قمة الإجرام".
لماذا تُستهدف المستشفيات؟
يُفسر محللون وخبراء حقوقيون هذا الاستهداف على أنه جزء من استراتيجية “الضغط الأقصى” التي تنتهجها "إسرائيل" ضد السكان المدنيين، بهدف تفكيك الحياة المدنية تمامًا، وتجريد الفلسطينيين من أي بيئة صحية أو إنسانية قادرة على الصمود، فالضربات لم تقتصر على المستشفيات، بل طالت مدارس ومراكز إيواء ومخيمات نازحين، ضمن نمط متكرر من الضربات "التحذيرية" التي تتحوّل في الواقع إلى عمليات تطهير بطيئة وبالغة الدمار.
ختام القول: من الشفاء إلى العدم
إن إخراج المستشفى المعمداني عن الخدمة لا يمثّل فقط تدميرًا لبناية طبية، بل هو تدمير رمزي للحياة في غزة، وضربة للمحاولات المستمرة للصمود في وجه المجازر، لا يمكن فصل هذا الاستهداف عن السياق العام للحرب الإسرائيلية التي لا تفرّق بين مدني ومقاتل، ولا بين مشفى وموقع عسكري، وتُعيد تعريف مفهوم الحرب ليشمل كل ما هو حي وبشري في غزة.
وإلى أن يتحرك المجتمع الدولي فعليًا، لا بالتصريحات بل بالمحاسبة وفرض العقوبات، ستبقى المستشفيات أهدافًا مفتوحة لصواريخ الاحتلال، وسيبقى أطفال ومرضى غزة، كما قال الدكتور نعيم، مكدسين خارج أبواب المجهول.
