الوقت – أثارت التغييرات والتطورات التي شهدتها سوريا بعد وصول المجموعات المسلحة وعلى رأسها جبهة تحرير الشام إلى السلطة، مخاوف إقليمية، وخاصة لدول جوار سوريا، من تداعيات عدم الاستقرار في البلاد.
وفي الوقت نفسه، وبينما تشعر الحكومة العراقية بقلق بالغ إزاء عودة عدم الاستقرار في سوريا، سعى زعماء إقليم كردستان في أربيل إلى دبلوماسية موازية مستقلة عن بغداد في هذا الصدد، وفي الأسابيع الأخيرة كانت هناك تبادلات ومفاوضات بينهم وبين الحكومة المركزية، فالأحداث في سوريا قد يكون لها تأثير على مجرى التطورات في هذا البلد.
في خطوة أولى، توجه حميد الدربندي مبعوث مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى شرق سوريا، والتقى بشكل منفصل مع مظلوم عبدي "القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية" ورئيس "المجلس الوطني" الكردي لمناقشة وجهات نظر كل طرف حول التطورات، والتعرف على آخر التطورات في سوريا وموقفهم من دمشق.
وبعد هذه الزيارة، توجه مظلوم عبدي، أواخر الأسبوع الماضي، إلى أربيل، الخميس (17 يناير/كانون الثاني)، وهذه المرة استؤنفت المفاوضات على الأراضي العراقية.
وحسب بيان صادر عن المقر المركزي لبارزاني، ناقش بارزاني وعبدي الوضع في سوريا وآخر التطورات الأمنية والسياسية، وجاء في البيان أنه في هذا الاجتماع، بالإضافة إلى الإطار العام لكيفية تعامل القوى الكردية مع الظروف الجديدة وكيفية اتخاذ موقف مشترك للأحزاب الكردية في سوريا، تم أيضاً مناقشة وبحث الوضع في سوريا.
وحسب البيان، تم التأكيد في الاجتماع على أن الأحزاب الكردية في سوريا يجب أن تقرر مصيرها بنفسها دون تدخل أي طرف آخر وبالطرق السلمية، بما يضمن حقوقها في الوحدة والتضامن المشترك مع النظام الجديد، كما يجب على حكام سوريا أن يتوصلوا إلى تفاهم واتفاق ويكونوا وكلاء الأمن والسلام والاستقرار، ويمنعوا تكرار المآسي التي حلت بالشعب الكردي والأقليات الأخرى في سوريا.
وعن تفاصيل لقاء عبدي مع مسعود بارزاني، قال عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري: "يعتبر هذا اللقاء إنجازاً مهماً لتعزيز وحدة الأكراد وترسيخ موقفهم ضد الحكام السوريين الجدد في دمشق، من أجل تحقيق انتقال سياسي سلمي."
وقال عبدي في تغريدة على صفحته على موقع "إكس نت": "اللقاء مع بارزاني شهد نقاشاً حول عملية التغيير في سوريا، وأكدنا معاً على ضرورة توحيد الموقف الكردي في سوريا".
وقال مسؤول من الإقليم لوكالة أسوشيتد برس: "ركزت محادثات بارزاني وعبدي على توحيد الموقف الكردي داخل سوريا، واستكشاف سبل فصل قوات سوريا الديمقراطية عن حزب العمال الكردستاني، ويرى بارزاني أن مثل هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام دعم دولي أوسع، وخاصة من خلال علاقات الحزب الديمقراطي الكردستاني مع الولايات المتحدة وتركيا".
وحدة الأكراد فصل جديد في تاريخ أكراد سوريا
لم تكن زيارة مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، إلى أربيل في إقليم كردستان ولقائه مع البارزاني زيارة عادية، بل مثلت رداً على مبادرة البارزاني لتوحيد الأكراد في سوريا.
وشهدت العلاقات بين الحزب وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، أكبر حزب في الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا، فتورا في السنوات الأخيرة بعد تحالف الاتحاد الديمقراطي مع حزب العمال الكردستاني المعروف باسم PKK.
وتصنف أنقرة حزب العمال الكردستاني على قائمة المنظمات الإرهابية، وتحت هذه الذريعة أنشأ الجيش التركي خلال العقد الماضي قواعد عسكرية في مناطق واسعة من شمال العراق وسوريا واحتلها فعليا، ما شكل تحديا كبيرا للعلاقات بين أنقرة وأربيل.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2014، قاد بارزاني مبادرة لتوحيد صفوف الأكراد في سوريا، واستضافت محافظة دهوك في المنطقة عدة اجتماعات بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي (المكون من أحزاب ومجموعات معارضة لحزب الاتحاد الديمقراطي)، ما أدى إلى توقيع "اتفاقية دهوك"، وبناءً على ذلك تم تشكيل هيئة سياسية كردية من الحزبين الرئيسيين بنسبة تمثيل 40% لكل منهما وللأحزاب الأخرى غير المنتمية إلى هذين الكتلتين، وتحقيق تمثيل فعّال ومشاركة كل الأطراف والمكونات في الحكم الذاتي وتطوير الشكل الحالي للإدارة الإقليمية وتحديد عدد السكان الأكراد.
لكن هذا الاتفاق لم ينفذ، ومع انتقال المعارضة إلى إقليم كردستان العراق، ظل التوتر هو الوضع السائد في المشهد السياسي للأكراد السوريين، ومع سقوط حكومة الأسد، بُذلت جهود لتوحيد صفوف الأكراد في سوريا بهدف التفاوض مع الهيئة الحاكمة الجديدة وتأمين حقوقهم، وقد اكتسب الأكراد مرة أخرى أهمية في المستقبل السياسي لهذا البلد، وخاصة أن الوحدة الكردية، في ظل الظروف السائدة في المنطقة، يمكن أن تزيد من فرص نجاحها، والثقل السياسي لأربيل في المعادلات الإقليمية والعلاقات مع الجيران.
وساطة البارزاني بين تركيا والأكراد
ويأتي هذا اللقاء في ظل دعوة تركيا الحكام الجدد في دمشق إلى القضاء على المنظمة الكردية السورية وإلا ستتخذ تركيا إجراء عسكريا، وفي وقت سابق، ترددت أنباء عن إمكانية قيام مسعود بارزاني بالتوسط بين أكراد سوريا وتركيا.
وبما أن بارزاني نجح في تطوير علاقات جيدة مع تركيا في السنوات الأخيرة وتمكن من تصدير موارد النفط والغاز في المنطقة إلى الخارج بمساعدة هذا البلد وكسب إيرادات ضخمة، فهو يحاول استغلال صداقته مع أنقرة والعمل كوسيط، وفي العلاقات بين تركيا والأكراد السوريين، لا بد من إيجاد حل يخفف التوتر بين الجانبين.
مع تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدفن الأكراد السوريين بأسلحتهم إذا لم يلقوا أسلحتهم، يسعى زعماء المنطقة إلى إيجاد حل لوقف عمليات تركيا وهيئة تحرير الشام ضد الأكراد السوريين.
وقال عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني جميل الحراكي: إن "القوات الكردية العراقية تسعى إلى إيجاد حلول سياسية تنسجم مع الدبلوماسية الخارجية بين تركيا والقوات الكردية السورية بما يعود بالنفع على الجانبين لمنع تصعيد الصراع"، وكانت زيارة مسرور بارزاني رئيس وزراء الإقليم إلى أنقرة قبل أسبوعين واللقاء مع أردوغان، أيضاً، حول التطورات في سوريا والقضية الكردية، وتعتزم عائلة البارزاني إقناع قوات سوريا الديمقراطية بوقف التعاون مع حزب العمال الكردستاني لإزالة أي ذرائع من أنقرة.
وبما أن العذر الوحيد لتركيا هو وجود حزب العمال الكردستاني، فقد تم وضع التدابير اللازمة لمعالجة مخاوف أنقرة، وفي هذا الصدد، قال مسؤول في حزب العمال الكردستاني لرويترز إن الحزب مستعد لإنهاء وجوده في سوريا بشرط أن يحتفظ الأكراد بدور قيادي في مناطقهم.
وأكد أن "أي مبادرة تؤدي إلى إدارة شمال شرق سوريا من قبل قوات سوريا الديمقراطية أو إعطائها دوراً كبيراً في القيادة المشتركة ستجبر حزب العمال الكردستاني على الموافقة على مغادرة المنطقة".
ولذلك، إذا استطاع بارزاني إقناع تركيا وهيئة تحرير الشام بمنح الحكم الذاتي لقوات سوريا الديمقراطية تحت حكم دمشق، فإن المخاوف الأمنية التي تواجهها أنقرة سوف يتم حلها أيضاً، السيناريو نفسه الذي تم تنفيذه على أساس الاتفاقية الأمنية الإيرانية العراقية، وانسحاب الجماعات الإرهابية والانفصالية من حدود إيران، ليتمكن بارزاني من تنفيذ الخطة نفسها في شمال سوريا، وطرد حزب العمال الكردستاني وإجبار أنقرة على وقف العمليات ضده، وسوف يوافق الأكراد.
من جهة أخرى، يأمل بارزاني أن يتمكن بمساعدة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من إجبار تركيا على التراجع عن مواقعها من أجل حماية الأكراد من التهديدات القادمة من هذه الدولة.
هموم وتحديات أربيل
ويخشى زعماء أربيل من أن تؤدي هجمات تركيا وتحرير الشام على الأكراد السوريين ونزع سلاح هذه المجموعات التي لعبت دوراً في مواجهة "داعش"، إلى تمهيد الطريق أمام الإرهابيين للعودة إلى شرق سوريا والعراق.
وفي ظل الفراغ الأمني الحالي، ومع تفكك العمود الفقري للجيش السوري بشكل كامل، هناك مخاوف من عودة ظهور تنظيم "داعش"، وبما أن خلايا "داعش" النائمة استغلت حالة عدم الاستقرار الأخيرة في سوريا والمناطق المحتلة، فإن هناك مخاوف من أن تنتقل هذه التهديدات، كما حدث في عام 2014، إلى العراق وإقليم كردستان.
ويرى بارزاني وزعماء أربيل أن وجود الأكراد السوريين يمكن أن يمنع "داعش" من اكتساب السلطة، وهم يحاولون الحفاظ على الحكم الذاتي النسبي للأكراد في سوريا من خلال التفاعل مع تركيا وتحرير الشام حتى لا يتمكن إرهابيو "داعش" من استعادة السيطرة على شمال العراق.
ولكن من ناحية أخرى، وبما أن تركيا لا تسلك أي طريق مباشر في مواجهة الأكراد وتريد فقط تدميرهم، فإن الإصرار المفرط على دعم الجماعات الكردية السورية قد يؤدي إلى تصعيد التوترات بين أربيل وأنقرة، وبما أن اجتماع رئيس وزراء الإقليم مع أردوغان فشل أيضاً في التوصل إلى نتيجة بشأن الأكراد السوريين، فإن هناك مخاوف من أن وساطة بارزاني المحتملة مع زعماء أنقرة ستفشل أيضاً.
وحسب بعض المراقبين، لا يبدو أن قوات سوريا الديمقراطية مستعدة للتخلي عن المبادئ الأساسية التي تأسست من أجلها، وهي الحفاظ على السلاح والتنظيم العسكري حتى يتم التوصل إلى توافق سياسي وشكل واضح للحكومة السورية الجديدة، لأنه، وفقًا لأن الإطاحة بالأكراد قد تعني إسقاط كل ما سعوا إلى تحقيقه خلال الأعوام الماضية، ومن ثم فإن إصرار الأكراد على الاحتفاظ بأسلحتهم وإصرار تركيا على نزع سلاح المجموعات الكردية يشكلان عقبة خطيرة أمام نجاح وساطة البارزاني.
ومن الجدير بالذكر أن إقليم كردستان شارك في وساطات عديدة بين أكراد سوريا منذ سنوات، توصل بعضها إلى اتفاقات سياسية مكتوبة لم تطبق على أرض الواقع، لكن المراقبين يشيرون إلى أن الوضع السياسي الحالي محدد للغاية ومن المرجح أن يوفر فرصاً جديدة وحافزاً مشجعاً لمزيد من التقارب بين القوى السياسية الكردية السورية، على أي حال، حتى يتم تحديد مصير الجماعات الإرهابية في شمال سوريا والقضاء على التهديدات الأمنية التركية، فإن جهود قادة أربيل للتوسط بين الأكراد وأنقرة لن تنجح.
