الوقت - تتركب الصور الكبرى عادةً من صور صغرى، ومثلها الأحداث التاريخية المفصلية، إذ تكون عادةً حصيلة لأحداث أصغر على صعد مختلفة.
ينطلق محمد عزايزة الناشط الميداني في جمعية "مسلك" للدفاع عن حرية التنقل للفلسطينيين والبضائع، من وإلى قطاع غزة، في مقاله المنشور في صحيفة “هآرتس” العبرية من تفاصيل صغرى في إضاءته على واقع كبير تعانيه فلسطين عموماً وغزة بشكل خاص من رعب وواقع مرير في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
ضاقت الأرض بما رحبت
يقول عزايزة: في مطلع مايو/أيار، خرجتُ في نزهة إلى شاطئ البحر في غزة، الأجواء التي تجلّت من بين المظلات الملّونة بشّرت بإجازة الصيف الوشيكة، يتراقص الفرح والأمل في عيون شابة وقفت تنظر إلى البحر وهي تستعد لبدء تمارينها الصباحية في المتنزه الجميل، قلت لنفسي إنّنا نستعد جميعاً لاستقبال الصيف وما يحمله من بهجة يفتقر إليها حيّزنا الضيق، الذي نشعر بأنه المكان الأكثر اكتظاظا على سطح الكرة الأرضية”.
إن شعور الضيق يكاد يكون الشعور الملازم لأهل غزة، على الصعيد النفسي و الجغرافي، فقد تسبب الاستيطان المتواصل في تقليص مساحة فلسطين، فلم يبقَ للفلسطينيين سوى حوالي 15% فقط من مساحة فلسطين التاريخية المقدرة بنحو 27 ألف كيلومتر مربع، حيث يستغل الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 85% من المساحة الفعلية.
الحصار طال حتى المثلجات
ويتابع عزايزة: "التقيت في ذاك اليوم بصاحب مصنع مثلّجات يحلم ببيع منتجاته في الضفة الغربية. تجدون في غزة أشهى المثلجات قبل أن تحظر إسرائيل بشكل قاطع خروج المنتجات المحلية من غزة، ... مؤخراً ، بعد نضال قضائي بادرت إليه جمعية “مسلك”، بدأت إسرائيل بالسماح لبعض الشركات في غزة بنقل بعض الحلويات والتسالي، مثل الكريمبو والبسكويت، إلى الضفة الغربية، حيث تسوّق في الحوانيت. ويقول إن هذه التسالي تُنقل إلى الضفة الغربية في ظروف معقدة وصعبة، تمسّ إلى حد كبير بالجدوى الاقتصادية، ولكنّ صاحب مصنّع المثلّجات يبدو متفائلا".
إن صناعة المثلجات القديمة في القطاع كانت المصدر الرئيس للمثلجات التي كانت تباع في الحوانيت في الضفة الغربية وداخل الأراضي المحتلة.
طال الحصار الإسرائيلي المستمر جوانب حياة الفلسطينيين كافة، وانعكست آثاره على كل تفاصيل الحياة فقد نشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تقريرا شاملاً
يوثق فيه تداعيات الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة وكشف فيه عن الآثار الوخيمة التي أحدثها الحصار في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية وتضاعف مؤشرات الأزمة الإنسانية.
فقد ذكر التقرير أن معدلات الفقر في قطاع غزة تجاوزت 65% بينما وصلت معدلات انعدام الأمن الغذائي إلى 72% ، وأصبح 80% من السكان يعتمدون على المساعدات، وشهدت البطالة ارتفاعاً لتصل إلى 43% .
وكشف مركز الميزان لحقوق الإنسان في تقريره أثر الحصار «الإسرائيلي» المفروض على قطاع غزة على حركة التجارة في القطاع، حيث تُعرقل دخول وخروج البضائع من وإلى قطاع غزة، ما أسهم في تدهور حالة حقوق الإنسان والأوضاع الإنسانية، وأثر على مختلف القطاعات الإنشائية والصناعية والزراعية والمياه والكهرباء والتعليم كما يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على معابر القطاع بهدف إحكام سيطرة الدخول والخروج لمنع الصادرات والواردات وخنق القطاع.
أما التقرير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) والذي حمل عنوان "التكاليف الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني: حصيلة القيود الإضافية في المنطقة ج، 2000-2020". فقد قدر تكلفة القيود الإضافية بنحو 2.5 مليار دولار سنويا، وأن التكلفة التراكمية بين عامي 2000 و2020 تعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية في عام 2020 وأكثر من 2.5 ضعف الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في العام نفسه.
وأضاف التقرير: "أدت مجموعة من القيود التي فرضتها السلطة القائمة بالاحتلال إلى تقييد الأنشطة الاقتصادية وحركة الأشخاص والبضائع في المناطق (أ) و (ب) و (ج). وتشمل فرض حظر على استيراد تكنولوجيات ومدخلات معينة ونظام تصاريح صارم وضوابط بيروقراطية مع وجود نقاط تفتيش وبوابات وسواتر ترابية وحواجز وخنادق إضافة إلى الجدار، وبغرض تسهيل توسيع المستوطنات، تفرض إسرائيل قيودا إضافية على الأنشطة الاقتصادية الفلسطينية في المنطقة ج، إضافة إلى القيود المفروضة في المنطقتين أ و ب".
وشدد التقرير على أن وصول الفلسطينيين إلى المنطقة (ج) أمر ضروري لتحقيق التنمية المستدامة للأراضي الفلسطينية المحتلة وقيام دولة فلسطينية مترابطة جغرافيا وقابلة للحياة على أساس حل الدولتين، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
واختتم التقرير بالتشديد على ضرورة رفع جميع القيود المفروضة على النشاط الاقتصادي الفلسطيني في المنطقة ج.
الصمود المؤلم:
ويكمل عزايزة: "قصف منازل وعائلات، نساء وأطفال، وقصص كل واحد وواحدة منهم. كما في أي هجوم عسكريّ على قطاع غزة، يحرص موظّفو وكالات الأنباء على توثيق الأضرار والإصابات، ويحاورون أشخاصا يصفون، ولكنّ الواقع الذي لا يُعرض على الشاشات، مختلف تماماً : /يجب أن نعيش، ولكننا نُقتل رغماً عنا/. الشيء الوحيد الذي يختلف من جولة لأخرى هو موقعك في معادلةٍ لا يمكن لأيٍ من سكان غزة الفرار منها: إما أن تكون بين الناجين، أو أن تُدرج في قائمة الضحايا”.
مثّل صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، بالرغم من قساوة المعاناة، إنجازاً فلسطينياً، وفشلاً للاحتلال الإسرائيلي في المقابل، والذي يهدف لاحتلال الأراضي وتهجير أهلها قسراً.
ولكن الاحتلال الإسرائيلي فشل في إجبار الفلسطينيين على الرحيل وإن نجح في احتلال الأرض بالقوة، حتى صار عدد الفلسطينيين يفوق عدد اليهود الإسرائيليين في فلسطين التاريخية. وهو ما دفع الصهيوني المتطرف بتسلئيل سموتريتش لتطوير نظريته في حسم الصراع من خلال ترحيل الفلسطينيين، أو قتلهم كما قال، أو إخضاع من يبقون لسيطرة الاحتلال.
توقيت الرعب
يقول عزايزة: يستوطن الرعب جسدك ويستحوذ على أفكارك طوال الوقت، أما عن أطفالك، فتظل وجوههم في حالة شحوب دائم. تضطر للإجابة مجدداً عن أسئلتهم بطريقة مختلفة”. “لماذا يموت الأطفال في مدينة غزة؟، سألتني ابنتي، البالغة من العمر ستة أعوام”. “هل سيموتون لدينا أيضا، في دير البلح؟”، قلت لها إنّني لا أعرف، وإنّ الخوف حق مشروع”. “يحق لك أيضا العيش بأمان، أضفتُ، ولكن الحقوق في غزة منتهكة”.
الرعب لا يفارق الفلسطيني، إنه الحال المسيطر على كل أنواع الشعور، وهو الإحساس الطبيعي في أرض لا يعرف موعد هطول صواريخ أعدائها ولا يمكن توقع توقيت طغيان ظلمهم وإجرامهم، فالموت هو اللون الطاغي على حياة هؤلاء الناس.
استعرض مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في تقرير له عام 2015 الضرر الواسع الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على النساء والفتيات في قطاع غزة صيف عام 2014 ووثق مقتل 299 وإصابة حوالي 2000 امرأة، إضافة إلى مقتل 197 من الفتيات الغزيات وإصابة المئات.
وعلى صعيد أماكن العيش، ذكر التقرير أن ما يقارب من 22 ألف امرأة و24 ألف فتاة فقدن أماكن عيشهن بشكل كلي أو جزئي خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
ويبين عزايزة أن حي دير البلح يشتهر بشدة اكتظاظه، فمنازله متلاصقة، حرفياً ، يعمل سكانه في الزراعة وفي قطاعيْ الصحة والبناء..... عائلات كاملة فقدت منازلها دون أي ذنب.
وتسببت جولة التصعيد الأخيرة بدمار عشرات المنازل بينما نقلت الأمم المتحدة عن مسؤولين في القطاع أن 103 منازل دمرت بشكل كامل بينما لحقت أضرار بالغة بـ140 أخرى.
وينهي عزايزة "بوجوب وقف الحرب النفسية التي أدرتها مع نفسي، وعدم الاستسلام لليأس. نعم، إنها اللحظة المناسبة للعودة إلى عملي من أجل حقوق الإنسان لسكان غزة، من بينهم هذه الطفلة، التي تستحق الحرية والعيش الكريم”.
