الوقت - في الساعة 8:55 مساءً من يوم الجمعة 3 فبراير 2023، خرجت نحو 50 عربة من قطار شحن مملوك لشركة "نورفولك ساترن" الأمريكية للسكك الحديدية عن القضبان بالقرب من قرية "فلسطين الشرقية" الواقعة على حدود أوهايو وبنسلفانيا.
هذا القطار، الذي تضمن ثلاث قاطرات وتسع عربات فارغة و 141 عربة كاملة، احتوى على مواد كيميائية خطرة وسامة، منها 14 ناقلة نفط من "كلوريد الفينيل"، وانفجر بعد الحادث. كلوريد الفينيل مادة شديدة السمية وقابلة للاشتعال ومسرطنة، تستخدم بشكل أساسي لإنتاج "بولي فينيل كلوريد".
تشكلت سحابة كبيرة من الدخان السام نتيجة احتراق كلوريد الفينيل وغيره من المواد الكيماوية الخطرة، في حادثة خروج قطار شحن عن القضبان في بلدة "فلسطين الشرقية" بولاية أوهايو.
وحسب بعض التقارير، فإن هذه السحابة قد سممت هواء منطقة قطرها عشرات الكيلومترات وتسببت في موت الحيوانات وأمراض لدی البشر. لا يزال من السابق لأوانه إجراء تقييم كامل لعواقب هذا الحادث، لكن الخبراء يخشون من تعرض عشرات الملايين من الأمريكيين لأنواع مختلفة من السرطان لسنوات قادمة.
أزمة بيئية
على الرغم من عدم مقتل أو إصابة أي شخص نتيجة انفجار العربات التي خرجت عن مسارها، إلا أن محتويات هذه العربات المتسربة تسببت على الفور في أزمة بيئية.
ونظرًا لأن كلوريد الفينيل يغلي عند درجة حرارة منخفضة(4.13 درجات مئوية)، فقد تبخر جزء من هذه المواد بسرعة ودخل الهواء بمجرد تسربه من العربات. وجزء آخر من هذه المواد، والذي يتم نقله في صورة سائلة، انسكب على الأرض ولوّث تربة المنطقة وأخيراً مياه الأنهار المجاورة.
من ناحية أخرى، إضافة إلى الحريق الهائل الذي أحدثه الانفجار، فإن رجال الإنقاذ الذين تم إرسالهم إلى مكان الحادث، بعد الكشف عن ارتفاع درجة حرارة العربات في الحادث، بسبب احتمالية حدوث انفجار أكبر، وكوسيلة للتخلص من المواد السامة المتسربة، من خلال إحداث ثقوب في العربات الناقلة للنفط قاموا بتفريغ حمولتها، بما في ذلك كلوريد الفينيل، وحرقها بطريقة محكومة.
في الوقت نفسه، نتيجة احتراق كلوريد الفينيل، يتم إنتاج منتجات جانبية خطيرة للغاية مثل "كلوريد الهيدروجين" و"الفوسجين". بعد أن يتحد مع بخار الماء في الغلاف الجوي، يمكن أن يشكل كلوريد الهيدروجين غيومًا بيضاء من حمض الهيدروكلوريك، والفوسجين غاز عديم اللون شديد السمية استخدم كسلاح كيماوي في الحرب العالمية الأولى، وقتل 85 ألف شخص.
لقد تسبب انتشار هذه المواد السامة في تربة وهواء المنطقة، في قيام حوالي 70 وكالة استجابة للطوارئ من ولايات أوهايو وبنسلفانيا وفرجينيا الغربية، ببدء عملية ضخمة للتعامل مع هذا الحادث.
صدرت الأوامر لسكان المناطق المحيطة بموقع الحادث حتى دائرة نصف قطرها أكثر من 1.5 كيلومتر، بمن فيهم سكان فلسطين الشرقية، بإخلاء منازلهم على الفور. حتى أن السلطات المحلية زارت الناس وطلبت منهم مغادرة منازلهم. والأشخاص الذين رفضوا مغادرة منازلهم، وخاصةً إذا كان لديهم أطفال، تعرضوا للتهديد بالاعتقال والسجن.
حاكم ولاية أوهايو مايك ديواين، وبينما أعلن أن "المسألة هي مسألة حياة أو موت"، قام بتنشيط الحرس الوطني للولاية للمساعدة في إخلاء المنطقة.
"هجوم نووي أو تقليدي"؛ 30 مليون شخص في خطر
ما لفت انتباه مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي فور وقوع الحادث في فلسطين الشرقية، هو عدم وجود تغطية كاملة ومكثفة لهذه الأزمة في وسائل الإعلام الرئيسية في أمريكا، إلى حد أن إيفان لامبرت، مراسل قناة "نيوز نيشن" الأمريكية، اعتقل من قبل ضباط شرطة الولاية أثناء تغطيته للمؤتمر الصحفي المباشر لدواين، حاكم ولاية أوهايو.
جاء ذلك على الرغم من أن "ترينت كونواي"، رئيس بلدية فلسطين الشرقية، نشر بيانًا طارئًا في اليوم التالي للحادث، أظهر الأبعاد الواسعة لهذا الحادث. وجاء في جزء من البيان أن بلدة فلسطين الشرقية "معرضة أو مهددة بخطر طبيعي/من صنع الإنسان/تقني/ أو هجوم نووي أو تقليدي".
وعلى الرغم من أنه خلال الأيام التي أعقبت الحادث، تم اكتشاف ملوثات ومواد سامة في الهواء وعينات التربة وحتى مياه الأنهار المحلية، لكن في 9 فبراير، بعد أقل من أسبوع من الحادث، أعلنت وكالة حماية البيئة الأمريكية أن المياه والهواء داخل وخارج المناطق التي تم إخلاؤها قد عاد إلى طبيعته، ويمكن للناس العودة إلى منازلهم.
لكن بعد عودتهم إلى منازلهم في فلسطين الشرقية، أفاد السكان المحليون بأن الهواء في المنطقة كانت رائحته غريبةً، وأنهم واجهوا جثث الحيوانات فور عودتهم إلى منازلهم. وذکر الناس حتى أنهم رأوا مئات الأسماك الميتة على سطح الماء في نهر لزلي ران، على بعد حوالي ثمانية كيلومترات.
وقال سيل كاجيانو، خبير المواد الخطرة، لوكالة الأنباء المحلية "دبليو بي ك إن" إنه فوجئ بالسماح للسكان بالعودة إلى المنطقة التي تم إخلاؤها بعد فترة وجيزة من بدء رجال الإنقاذ حرق كلوريد الفينيل.
ورأی أنه في غضون 5 إلى 20 عاماً بعد هذا الحادث، قد يشهد السكان المحليون انتشار السرطان على نطاق واسع. وأکد كاجيانو: "لقد هاجمنا عملياً مدينةً بمواد كيميائية مثل سلاح نووي حتى نتمكن من فتح خط سكة حديد".
كما طلب من المواطنين المحليين إجراء فحص طبي كامل على الفور، من أجل تسجيل حالتهم الصحية الحالية كوثيقة مرجعية في حال حدوث عواقب محتملة في السنوات القادمة.
وبينما يقول الأشخاص الذين يعيشون في المناطق القريبة من موقع الحادث، إنهم بعد عودتهم إلى أماكن إقامتهم يعانون من الصداع والسعال ويشعرون بالمرض، تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 30 مليون شخص، أي حوالي 10 ٪ من سكان الولايات المتحدة، قد يكونون في خطر الآن.
ويعتمد هذا التقييم على حقيقة أن أكثر من 30 مليون أمريكي يعيشون في المناطق المحيطة بحوض نهر أوهايو، وهذا النهر يوفر مياه الشرب مباشرةً لأكثر من خمسة ملايين أمريكي.
السيناريو الذي أصبح حقيقةً واقعةً
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، لماذا لم تکتمل التغطية الإخبارية لحادثة فلسطين الشرقية؟ وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة يمكن أن يكون لها أسباب مختلفة، ولکن يبدو أن مصالح شركة نورفولك الجنوبية للسكك الحديدية لعبت دورًا مهمًا في ذلك.
إن القطار الذي تعرض للحادث لم يكن به نظام "فرامل هوائية ذات تحكم إلكتروني"؛ وهو نظام کان يؤدي، وفقًا لمسؤول سابق في الإدارة الفيدرالية الأمريكية للسكك الحديدية، إلى تقليل خطورة هذا الحادث.
يذکر أنه في عام 2017، ضغط عدد من شركات السكك الحديدية، بما في ذلك نورفولك الجنوبية، لإزالة الشرط القانوني لاستخدام هذه المكابح في القطارات التي تحمل مواد خطرة.
إضافة إلى ذلك، أجرت شركات السكك الحديدية في جميع أنحاء الولايات المتحدة عمليات تسريح جماعي للعمال في الأشهر الأخيرة من أجل زيادة هوامش ربحها، وبالتالي تقليل عدد العمال والأطقم في كل قطار.
ويقول "رون كامينكو"، مهندس قاطرة لشركة "أمتراك" التابعة لشركة قطارات الركاب الوطنية الأمريكية ومهندس قطار الشحن السابق لشركة نورفولك الجنوبية، إن المسؤولية في حادثة أوهايو تقع علی الإشراف غير الكافي وصناعة ذاتية المراقبة إلى حد كبير، أدت في السنوات الأخيرة إلى تقليل القوى العاملة في صناعة السكك الحديدية في الولايات المتحدة، وإعطاء الأولوية لأرباحها غير المسبوقة على السلامة.
والنقطة الغريبة والمثيرة للاهتمام التي يجب ذكرها في الختام، هي أن حادثة خروج القطار عن مساره في فلسطين الشرقية، تشبه بشكل غريب سيناريو فيلم "الضوضاء البيضاء" الذي صدر قبل نحو ستة أشهر.
في هذا الفيلم، يصطدم قطار شحن بناقلة نفط في ولاية أوهايو، ما يتسبب في انفجار يملأ الهواء بمواد سامة. ومن المثير للاهتمام معرفة أن بن راتنر، من سكان فلسطين الشرقية، لعب مع عائلته دورًا جزئيًا في هذا الفيلم. وهؤلاء الأشخاص يواجهون الآن سيناريو الضوضاء البيضاء في حياتهم الحقيقية.
