الوقت- وكأنّ الجميع يتهيأ للحرب دون الوصول إلى المواجهة المباشرة، "فالحرب بالوكالة" أصبحت سمة حروب العصر وقيادة المعركة من الخلف دون الإنخراض فيها والمواجهة الغير مباشرة تلخص مشهد الصراع. وتأتي المناورات العسكرية لتضيف معطيات إضافية لتكوين مشهد جديد يرى فيه البعض تمهيداً "للحرب بالأصالة" بين المتصارعين بعد تغيّر موازين القوى ورسم معدلات جديدة إستطاع محور المقاومة وحلفائه من خلالها أن يستعيد زمام المبادرة في السياسية والميدان. فما هي أهداف المناورات العسكرية في ظل واقع سياسيٍ وأمني حساس وصراعٍ خفيٍ بين أمريكا وأعدائها وما هي الرسائل الموجهة من خلالها؟ وهل يتحول الصراع بالوكالة إلى مواجهة مباشرة بين الأطراف أم إنّها فقط حرب مناورات الترهيب من بعيد؟
لا يخفى على أحد أنّ الإشتباك الحاصل في الشرق الأوسط وخاصة على الساحة السورية ليس إلا إنعكاساً لحدة الخلاف والصراع الحاصل بين أمريكا من جهة ومحور المقاومة وحلفائه من جهة أخرى. وفي ظل التحولات الإستراتيجية التي تشهدها المنطقة والتدخل الروسي في الميدان السوري خاصة، وبعد إنشاء التحالف الرباعي الذي ضمّ روسيا وإيران والعراق وسوريا مع حزب الله في مقابل التحالف الدولي بقيادة أمريكا، تغيرت الصورة لتضمّ أحلاف دولية في مواجهة بعضها البعض ولكل حلف مناصروه ومؤيدوه، وكأنّ مرحلة تحضيرية لحرب جديدة تُهيأ لها العدة من اجل كسر المعادلات الجديدة في المنطقة.
لكن على الرغم من التهويل الذي تطلقه أمريكا وحلفائها في مواجهة التدخل الروسي في سوريا وتنامي حضورها في الشرق الأوسط، فإنّ التاريخ يشهد على تهديدات كثيرة مشابهة أطلقتها أمريكا وربيبتها "إسرئيل" في وجه إيران وحزب الله دون أن تنفّذ شيئاً من ذلك. فكيف إذا أصبح الأمر متعلق بحلفٍ قويٍ على أعلى درجات من التنسيق والقدرات العسكرية. فالأمر معقّد جداً وأمريكا لن تدخل في مواجهة مباشرة قد تتسبب في إغراقها من جديد. وقد قالها الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوضوح:" لن نقاتل خارج بلادنا" ، رافضاً إرسال قوات عسكرية أميركية الى سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن، معتبراً أنها "استراتيجية سيّئة"، وأن "من المخجل أن نكرّر الخطأ ذاته"، أي الغزو الأميركي لأفغانستان في العام ٢٠٠٢ والعراق في العام ٢٠٠٣. لكن يرى بعض المحلّلين أنّ قرار الرئيس أوباما قابل للتعديل إذا استدعت الحاجة للحفاظ على مصالح أمريكا في المنطقة، ويرى البعض الآخر أنّ أمريكا لن تخطو خطوة عالية الحساسية كهذه قبل الأنتخابات الرئاسية عام 2016.
ويقوم الأطراف المتصارعة بمناورات للتأكيد على الحضور والجهوزية في مقابل أي تهديدات من الطرف الآخر، حيث يستعرض الحلف الأطلسي قوته من خلال مناورات هي الأكثر ضخامة في البحر المتوسط، وتتزامن مع مناورات روسية وأخرى إيرانية. والحشد الأطلسي الكبير في البحر المتوسط يستغرق خمسة أسابيع ويسعى من خلاله الحلف إلى إعادة توازن القوى في الشرق الأوسط وتثبيت حضور أعضائه بعد تنامي الحضور الروسي ونفوذ محور المقاومة في الشرق الأوسط. لكن يقول مراقبون إن استراتيجية الحلف لمحاصرة روسيا والصين وإيران أطاحت بها الدول الثلاث من خلالها حضورها القوي في ميدان مكافحة الإرهاب، وسبقت الأطلسي في مناورات المتوسط وغيرها وأثبت حضوراً فعالاً.
ويقوم حلف الناتو بتدريبات استراتيجية تعد الأكبر له منذ 13 سنة بمشاركة عشرات الدول، 36 ألف جندي و140 طائرة و60 سفينة. وذلك في الوقت الذي أبحرت فيه حاملة طائرات روسية إلى بحر بارنتس بالمحيط المتجمد الشمالي.
وكان مساعد الامين العام لحلف شمال الاطلسي ألكسندر فيرشبو قد أعلن في مراسم إطلاق المرحلة الميدانية من تدريبات "Trident Juncture-2015" في ايطاليا أن هذه الفعالية العسكرية ستظهر قدرات الناتو فيما يخص الرد على جميع أنواع المخاطر، بدءاً من العمليات القتالية التقليدية ووصولاً إلى مواجهة أساليب الحرب بالوكالة وتداعيات الحرب الإعلامية. وأكد فرشبو ان الحلف "بامكانه الرد على اي تهديد من اي جهة اتى"، وأضاف:" ان كل ما يفعله الحلف الاطلسي "دفاعي، متناسق ومتطابق مع الالتزامات الدولية" التي قطعها. وأكد انه لا يتوجب النظر الى "روسيا كخصم لهذا التمرين. ان الخصم وهمي". وكان الجنرال فيليب بريدلوف قائد قوات الحلف الاطلسي في اوروبا قد وجه رسالة اكثر شدة جاء فيها ان هذه التدريبات "توجه رسالة واضحة الى كل معتد محتمل سيحاول انتهاك سيادة احدى دول الحلف، لانه سيواجه تدخلاً عسكرياً حاسماً من الدول الحليفة الـ28". وقال وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون، "إن الحلف يريد إظهار قدرته على التحرك في عالم أكثر قتامة وخطورة" بحسب تعبيره.
وتشارك روسيا كمراقب في هذه المناورة تأكيداً لعدم العودة إلى منطق الحرب الباردة وفق بعض المراقبين. وكانت وزارة الدفاع الروسية من جهتها قد أعلنت أن قوات الأسطول البحري الروسي، أجرت تدريبات واسعة النطاق على عمليات الإنزال البحري في إقليم بريموريه في أقصى شرق البلاد. وشارك في التدريبات أكثر من 1000 جندي وضابط، و80 آلية عسكرية و10 سفن حربية مساندة، ومجموعة من طائرات ومروحيات النقل، إلى جانب أسراب عدة من المقاتلات من طراز (سو 25). وأوضحت قيادة أسطول المحيط الهادئ الروسي، أن قوات الإنزال تدربت بصورة خاصة على كيفية تحرير منطقة ساحلية استولى عليها إرهابيون.
من جانب آخر إنطلقت أمس مناورات للجيش الإيراني تحت اسم "محرم" في محافظات كردستان وكرمانشاه وآذربيجان الغربية غربي وشمال غربي البلاد تستمر يومين. وتشارك فيها القوات البرية والدفاعات الجوية والشرطة وقوات التعبئة. كما يشارك في المناورات الطيران الحربي وطائرات بدون طيار، فيما يتم خلالها اختبار اصناف مختلفة من الأسلحة المحلية الصنع. ويبدأ سيناريو المناورات عبر تحرك قوات التدخل السريع للقوات البرية وبمشاركة وحدات القوات الخاصة وطائرات من دون طيار لرصد وكشف مقرات العدو.
ويقول العميد سيد كمال بيمبري، المتحدث باسم المناورة، "نعمل في هذه المناورة على تنفيذ خطط قتالية مشتركة في ظروف جغرافية صعبة، وهذا اختبار لقواتنا لتتموضع في مكانها المناسب وفي الوقت المحدد". ويشير مسؤولون آخرون أنّ أهم أهداف المناورة هو رفع مستوى جاهزية الوحدات القتالية والمراقبة والاشراف على الحدود في مواجهة التهديدات في المنطقة والقادمة من خارجها. وقال قائد القوات البرية في الجيش الايراني العميد احمد رضا بوردستان :" ان الجماعات التكفيرية تقاتل بالنيابة عن اميركا واسرائيل، وبدعم مالي من دول "اسلامية" في المنطقة، مضيفاً ان هذه الجماعات تهدد المنطقة بجرائمها ويجب ان نرفع من قدراتنا الدفاعية لتكون متناسبة مع حجم هذه التهديدات.
يقول البعض إنّ صوت قروع طبول الحرب العالمية الثالثة أصبح واضحاً في ظل تنازع وصراع شديد على النفوذ والمصالح في المنطقة. بينما يرى البعض الآخر أنّ العالم لا يحتمل حرباً جديدةً لأنّ كل الأطراف تدرك أنّ هذا الزمان ليس كسابقاته، وأي حربٍ قادمة ستكون مدمرةً للجميع. ولكن مع تأكيد كل رأي على صوابية تحليله، تبقى المناورات العسكرية إحدى وسائل الحرب النفسية وعرض القوة وإثبات الحضور وتوازن االقوى منعاً لحرب قادمة أو تمهيداً لخوضها.
