الوقت- في أي موقع سياسي كنت، مع روسيا أو ضدّها، لا بدّ لك أن تعترف لهذا الرجل الستيني بالذكاء والحنكة السياسية التي قل من يتمتع بها في هذا الزمان. فأعداء روسيا قبل أصدقائها ينظرون بإحترام لهذا القائد الروسي الذي إستطاع بعد خمسة عشر عاماً من توليه قيادة أكبر دولة في العالم بثقلها السياسي والعسكري، أن يحوّلها إلى قوة عظمى إستطاعت أن تكسر الاحادية القطبية لأمريكا، وتثبت حضوراً فعالاً ووازناً في القضايا الإقليمية والدولية. فـ "الدّب الروسي" كما يحب بوتين أن يطلق عليها، حجزت مقعداً بين الدول الأقوى في العالم من جديد، وعادت لتغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط بعدما تفردت أمريكا لسنوات بقراره ومصير شعوبه.
فماذا غيّر وصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا بعد محطات صعبة إقتصادياً وأمنياً عاشتها الدولة العائدة إلى ساحة الكبار؟
يقول بوتين إنّ الجرح الكبير في حياته هو سقوط الشيوعية وضياع الإمبراطورية السوفيتية العظيمة. والأعمال الإرهابية المروعة، في بيسلان، وفي وسط موسكو في شارع دوبروفكا، بالنسبة له هي أكثر الأحداث المأساوية التي مرت على روسيا. والرئيس الروسي الذي كان يعيش في حي فقير من سان بطرسبورغ، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يمتلك حساً وطنياً عميقاً ومقتنع بأن روسيا عانت الكثير من الظلم، ويجب أن تستعيد قوتها وتنتفض من جديد.
وعُرف فلاديمير بوتين بأنه رجل غامض وأنه حرباء بفطرته حيث يتقن كيف يتلوّن حسب الظروف تبعاً لما تقتضيه مصالحه. وأنه حافظ باستمرار في عمله على الطرق التي كان قد تدرّب عليها في سنوات عمله الطويلة كأحد ضباط الجهاز السرّي السوفيتي السابق الشهير "كا جي بي" في قسم الاستخبارات الخارجية. وكان مديراً لجهاز الأمن الفيدرالي " في. أس. بي"، وتولّى منصب رئيس وزراء روسيا في أواخر عهد يلتسين عندما كانت الحرب الشيشانية مستعرة بقوّة.
وقد واجه بوتين تحدياً خطيراً عندما تسلم سدّة الرئاسة، بحسب الكاتب الدبلوماسي السوفيتي السابق فلاديمير فيديروفسكي، حيث زاره جماعة من أصحاب المال ورجال المصارف ممن يصفهم الإعلام بـ"طواغيت المال"، وقالوا له "نحن سندير البلاد". وقال بوتين لهم "سنرى"! وعاشت روسيا في عهد بوتين أزمات وتحولات بدأت بحسم الحرب الثانية في الشيشان والقضاء التام على النزعات الانفصالية ومحاولات النيل من روسيا في كيانها ووحدة أراضيها في عقر دارها.
وأعقب النصر على الإرهاب في الشيشان وتوطيد أركان الفيدرالية الروسية مرحلة إنعاش الاقتصاد المتردي المثقل بالديون الطائلة، في تركة ثقيلة لإصلاحات أول وآخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، وما جلبته الإصلاحات الليبرالية التي طبقها فريق الرئيس الأول لروسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد بوريس يلتسين وتمخض عنها فقر شامل وفساد استشرى في مفاصل الدولة ونخرها.
فبعد أن تسلّم الرئيس الجديد، ذو الشخصية الديناميكية والمصرة على تخطي التحديات، سدة الرئاسة في روسيا، شرع في معالجة الاقتصاد وبدأت روسيا بقيادته تتحرر من نير الديون ومهانة الخزينة الخاوية، ولم يكد بوتين ينهي ولايته الرئاسية الأولى حتى تمكنت روسيا من سداد ما عليها من مئات مليارات الدولارات قبل موعدها، وأخذت الصناعات تنتعش من خلال إعادة إطلاق المجمع الصناعي الحربي الذي شكل قاطرة أولى في جر الاقتصاد المتعب. واستغلت إدارة بوتين عائدات النفط والغاز والحبوب والمعادن والأخشاب التي تصدرها روسيا وسخرتها بالدرجة الأولى في خدمة البرامج الاجتماعية والإصلاحات وتقوية الجيش والاسطول الروسيين. فقد أظهر الرئيس بوتين منذ بداية إستلامه الحكم التصميم والإرادة لإعادة روسيا إلى موقع الدول المنافسة في العالم.
وفي سياق الأحداث التي عاشتها روسيا کانت أزمة عام 2008 من المحطات الصعبة في تاريخ روسيا. حيث اضطرت حينها بقيادة الرئيس دميتري ميدفيديف، مستندة إلى ما أسس له بوتين، لتلبية طلب جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والدفاع عنهما في وجه مغامرة الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي وطرد قواته الى حيث جاءت مما أثار حفيظة الغرب وأشعل الشرارة الأولى للمنافسة الجيوسياسية وحرب المصالح في العالم.
واستمرت الأزمة الأوكرانية التي بدأت في العام الماضي وتطورت بعدما حاولت أمريكا وتبعها الأوروبيون بالضغط على روسيا للتنازل والتعاون في ملفات الشرق الأوسط. وقد تمّ إفشال هذا المخطط بحنكة إدارة بوتين التي أجبرت أوروبا على إعادة النظر بما أقدمت عليه بشراكة الأمريكيين لضرب المصالح الروسية. وهذه التطورات الخطيرة على الحدود الروسية دفعت بوتين للدفاع عن مصالحها وحماية الاستفتاء العام في القرم على الانضمام الى روسيا بإرسال قوات خاصة في جنح الظلام وخفية عن أعين الناتو وأمريكا وأجهزة رصدها وأقمارها الى أراضي القرم وفرض طوق بحري وجوي عليها. واستمرت "عملية تأمين الاستفتاء" هناك حتى قال الشعب "نعم" للعودة إلى أحضان روسيا الاتحادية البلد الأم لشبه جزيرة القرم التي كانت قد ألحقت إدارياً وبقرار من الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بأوكرانيا السوفيتية الإشتراكية.
وقد كانت المفاوضات النووية بين إيران والسداسية الدولية من المراحل المهمة التي أضافت إلى سجل روسيا، شهادة جديدة في إدارة العلاقات والتفاوض مع الدول الكبرى، وقد نجحت إيران بفضل إصرارها وحنكتها الدبلوماسية بالتعاون مع روسيا والصين في كسر الحصار النووي عنها.
ولعل أبرز وأهم الخطوات التي قامت بها روسيا على المستوى الإستراتيجي، والتي اعتبرت تحوّلاً وقلباً لموازين القوى في الشرق الأوسط وكسر الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية، هي التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا، الذي غيّر المشهد السياسي والميداني للأزمة السورية وفاجأ الصديق قبل العدو بقدرة بوتين وإدارته على إختيار الوقت المناسب لإحداث تغيير، أظهر روسيا من جديد قوة دولية عظمى.
ويُقال في روسيا إنّ فلاديمير بوتين ناور بقدر كبير من المهارة حيال مجموع القوى والفئات السياسية الروسية كي يستطيع أن يفرض نفسه ورؤيته السياسية. ويرسم فلاديمير فيديروفسكي في كتابه لبوتين صوراً متعددة الوجوه، بحيث أنه يختبئ خلف عدد من الأقنعة، ويبدو الغموض في تعابير وجهه خلف نظرته غير المحدّدة أحيانا والعميقة أحيانا أخرى" كما يقول. ويضيف: "إن لفلاديمير بوتين خمسة وجوه سياسية متباينة فيما بينها. "الوجه الأول هو وجه "الكا جي بي"، حيث بدأت مغامرته مع ذلك الجهاز بنوع من حكايات العفاريت، حيث كان حلمه هو أن يصبح مثل جيمس بوند على الطريقة الروسية. الوجه الثاني هو وجه سان بطرسبورغ، ففي تلك المدينة خطّ الملامح الرئيسية لما ستكون عليه طريقة بوتين في العمل السياسي والعام إجمالاً. الوجه الثالث هو ذلك الذي صاغته مرحلة الصعود القوي نحو الرئاسة والوصول إلى الكرملين. الوجه الرابع اكتسبه مع وصوله إلى الكرملين حيث كان همّه الأوّل هو أن يبدو في ملامح رجل الدولة. الوجه الخامس والأخير تزامن مع ظهور الاحتجاجات الشعبية الأولى حيال حكمه والتي أشار المشاركون فيها إلى أنهم يريدون روسيا بدونه."
مع هذه الوجوه إستطاع الرئيس بوتين أن يتخطى بنجاح الصعوبات والتحديات التي واجهت روسيا داخلياً وخارجياً، وأن يوصل روسيا لتصبح دولة عظمى فعالة ومبادرة بثقلها الوازن ورأيها المؤثر في القضايا والملفات الدولية. ففي أي موقع كنت، الإعتراف بقدرة وهيبة ودهاء "الدبّ الروسي" أمرٌ لا مفر منه.
