الوقت - تلوح في الأفق بوادر عملية "وعد صادق جديد"، وهذا ما تجلى في قراءة متأنية لتصريحات القيادات الإيرانية العليا عقب الخطاب المفصلي للقائد الأعلى للثورة في الذكرى السنوية لاقتحام وكر التجسس الأمريكي، واليوم الوطني لمناهضة الاستكبار العالمي، وقد أكد قائد الثورة في إيران، في لقائه الجماهيري الحاشد مع النخب الطلابية والأكاديمية، أن الأعداء سيواجهون "رداً ساحقاً لا هوادة فيه".
في أعقاب عملية "الوعد الصادق 2"، أطلقت طهران تحذيراً صارماً مفاده بأن أي محاولة صهيونية للرد على العمل المشروع للحرس الثوري - في الثأر لدماء قادة حماس وحزب الله والمستشار العسكري الإيراني الرفيع في لبنان - ستُواجَه برد إيراني أشدّ وطأةً وأعمق أثراً، وتشير المعطيات الراهنة إلى أن القرار بتنفيذ عملية "الوعد الصادق 3" قد اتُّخِذ، وما عاد الأمر إلا مسألة توقيت لشن هجوم إيراني كاسح يغيّر قواعد اللعبة.
الخطأ في الحسابات: سياسة الردع ليست نكوصاً عن المواجهة
في ضوء الشواهد الميدانية وتصريحات القيادة الإيرانية العليا، تجلّى الهجوم الجوي الصهيوني كاستعراض فارغ المضمون، حيث نجحت المنظومة الدفاعية الإيرانية في إحباط هذا العدوان واسع النطاق بكفاءة عالية. وهنا يُطرح سؤال محوري: لماذا قررت طهران - التي لطالما أكدت عدم سعيها لتوسيع رقعة المواجهة والاحتقان الإقليمي - الرد الحاسم؟ هذا التساؤل الاستراتيجي قد يُفسَّر، وخاصةً في أروقة الإعلام المعادي لإيران، كتناقض ظاهري في المنظومة السياسية الإيرانية.
يمكن تفكيك هذا الالتباس المفترض من خلال محورين رئيسيين: المحور الأول: الردع الاستراتيجي والحق السيادي، فرغم أن العدوان الجوي - خلافاً لمخططات المحور الصهيوأمريكي - لم يُحقق أهدافه في إلحاق أضرار جوهرية بالبنية التحتية العسكرية والاستراتيجية، أو إيقاع خسائر بشرية ذات شأن، إلا أن انتهاك السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية الإيرانية - في خرق سافر للقوانين الدولية ووسط إدانة إقليمية وعالمية واسعة - يستوجب رداً حاسماً.
تؤكد الجمهورية الإسلامية عبر هذا النهج الاستراتيجي للمجتمع الدولي، وتحديداً لأعدائها، أن أي مساس بأمنها القومي وسيادتها الإقليمية سيُواجه برد صارم، وأن قدراتها العسكرية كفيلة باستئصال أي تهديد واقتلاع جذور العدوان من منابعه.
المحور الثاني: الحرب الإدراكية والمعادلة الاستراتيجية، حيث تخوض إيران حالياً حرباً إدراكيةً متعددة الأبعاد، متزامنةً مع المواجهة الأمنية والعسكرية ضد المحور الصهيوني وحلفائه، تستهدف هذه الحرب تصحيح المفاهيم المغلوطة والحسابات الخاطئة للکيان، المستقاة من قراءته السطحية لمجمل المواقف السياسية والعسكرية والإعلامية الإيرانية، وفهمه القاصر للمشهد الاقتصادي والاجتماعي والرأي العام.
وهذا الخلل في التقدير الاستراتيجي أدى إلى فشل الکيان في استيعاب الرسائل العميقة لعمليتي "الوعد الصادق 1 و2"، ما دفعه - استناداً إلى افتراضات واهية حول تجنب إيران للمواجهة - إلى ارتكاب حماقة استراتيجية جديدة.
لقد شهد المشهد الجيوسياسي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، صراعاً استخبارياً وأمنياً متواصلاً في دهاليز السياسة الخفية على مدى عقود، بيد أن الاعتداء الصهيوني السافر على المقر القنصلي الإيراني في دمشق - الذي يُعدّ امتداداً للسيادة الإيرانية - واستشهاد نخبة من قادة الحرس الثوري، قد دشّن مرحلةً محوريةً في مسار هذا الصراع الاستراتيجي، ما حدا بطهران إلى إعادة هندسة منظومة الردع العسكري تجاه هذا الكيان، متوّجةً ذلك بتنفيذ عملية "الوعد الصادق 1" كرد متكافئ على تحولات السلوك العدواني لقيادة تل أبيب.
غير أن المؤسسة الصهيونية لم تستوعب دلالات الضربة الاستراتيجية التي تلقتها، فعمدت إلى تصعيد نهجها العدواني عبر تصفية قيادات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، في محاولة يائسة لتعويض إخفاقاتها الاستراتيجية بمكاسب تكتيكية محدودة، الأمر الذي استدعى تنفيذ عملية "الوعد الصادق 2" بزخم أشدّ وقوة أعظم لترسيخ معادلة الردع الاستراتيجي.
إن أي تراخٍ في الرد أو تردد في إظهار الإرادة الصلبة في مواجهة الاعتداءات المعادية - مهما تضاءل حجم أضرارها - يُعدّ في جوهره انصياعاً لقواعد اللعبة الإسرائيلية، ما سيمكّن تل أبيب من الادعاء بنجاحها في فرض معادلة ردع على الجمهورية الإسلامية، وبالتالي مواصلة عدوانها وجرائمها ضد محاور المقاومة بأريحية تامة تحت المظلة الأمريكية، دون خشية من رد إيراني رادع، ومن هذا المنظور الاستراتيجي، سيشكّل "الوعد الصادق 3" نقطةً فاصلةً في كسر شوكة الكيان في معركة الإرادات المصيرية.
مناورة الضربة الاستباقية: بين مخاض الخوف وترقب الوعد الصادق
في أعقاب عمليتي "الوعد الصادق 1 و2"، التي كشفت بجلاء عن هشاشة المنظومة الدفاعية للكيان الصهيوني أمام القدرات الصاروخية الإيرانية المتفوقة، يعيش الكيان المحتل حالةً من الارتباك الاستراتيجي والصدمة العميقة إزاء التصريحات الإيرانية الحازمة، بشأن حتمية الرد المزلزل على أي مغامرة عسكرية.
وفي خضم هذا المشهد المأزوم، لجأت المؤسسة الصهيونية إلى تسويق الضربة الاستباقية كمناورة سياسية يائسة، وقد تجلى ذلك في دعوة أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب الصهيوني السابق، إلى تبني خيار الضربة الوقائية ضد إيران، زاعماً أن انتظار الضربة الإيرانية خيار غير مقبول استراتيجياً.
لقد شكّل مبدأ الإنذار المبكر والمبادرة العسكرية ركيزةً محوريةً في العقيدة العسكرية الصهيونية، والذي يقوم على فرضية استباق أي تهديد محتمل استناداً إلى المعطيات الاستخباراتية، مقترناً بمبدأ نقل المعركة إلى أرض الخصم، وها هي المؤسسة العسكرية الصهيونية تحاول استدعاء هذه المبادئ التقليدية في مواجهتها الراهنة مع إيران.
بيد أن الحقيقة الاستراتيجية الصارخة تؤكد أن العقيدة العسكرية "البن غوريونية" قد تهاوت أركانها، ليس في المشهد الراهن فحسب، بل منذ الضربة الاستراتيجية الموجعة التي وجهتها عملية "طوفان الأقصى"، فكل ادعاءات جيش الاحتلال بقدرته على تحييد القدرات العسكرية لمحور المقاومة - حزب الله وحماس وأنصار الله - عبر الضربات الاستباقية، سرعان ما تتهاوى أمام الوقائع الميدانية، باعتراف المؤسسة الصهيونية ذاتها.
وقد أكدت القيادة العسكرية الإيرانية أن جميع الأضرار التي طالت منظومات الدفاع الجوي جراء العدوان الصهيوني، قد تم تجاوزها بكفاءة عالية، دون المساس بالقدرات الدفاعية الجوهرية للجمهورية الإسلامية، غير أن أي مغامرة استباقية صهيونية ستُقابَل حتماً برد إيراني كاسح، يفوق في شدته وتأثيره كل السيناريوهات المرسومة حالياً ضد الكيان المحتل.
التهديدات الأمريكية العقيمة
يتجلى المشهد في المناورة الأمريكية المزدوجة القائمة على سياسة العصا والجزرة، فمن ناحية، تسعى الولايات المتحدة جاهدةً لنسج شبكة ردع متطورة لحماية حليفتها الإسرائيلية من أي تحركات إيرانية محتملة، وتتجسد هذه المساعي في سلسلة من الاستعراضات العسكرية، ونشر قوات النخبة، وعرض أحدث الترسانات في المنطقة - كل ذلك بهدف ثني طهران عن أي خطوة تصعيدية.
وعلى الجانب الآخر من هذه المعادلة، تتبنى واشنطن خطاباً دبلوماسياً مغلفاً بادعاءات احتواء الأزمة، وإخماد نيران الحرب في لبنان وغزة، وهذا الخطاب المزدوج يهدف إلى استمالة إيران نحو مسار التهدئة، والانخراط في المفاوضات.
بيد أن هذه المناورات الأمريكية تصطدم بواقع الحرب الإدراكية والمعرفية، التي تستوجب منع تشكيل معادلة ضبط الصراع وفقاً للرؤية الأمريكية الأحادية، فالحقيقة الجلية هي أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً مجرد مراقب محايد، بل كانت ولا تزال لاعباً رئيسياً في ساحات القتال في غزة ولبنان، فإلى جانب الدعم المالي والعسكري السخي، تعمل واشنطن كذراع تنفيذي فعال في غرفة العمليات الإسرائيلية، سواء في إدارة العمليات العسكرية على الأرض، أو في التخطيط للضربات الجوية المحتملة ضد إيران.
وعليه، فإن الرادع الحقيقي لنزعات التطرف في تل أبيب - المدعومة أمريكياً - لن يكون مجرد ضبط النفس أو الانصياع للوعود الأمريكية الواهية، بل إن الحل الأمثل يكمن في تبني استراتيجية سياسية وعسكرية هجومية، قائمة على مبدأ الردع الفعال والمتقدم.
أما فيما يتعلق بالحرب النفسية التي تشنها واشنطن - عبر الترويج لنشر منظومات "ثاد" الدفاعية المتطورة في الأراضي المحتلة، أو التباهي بنشر أسلحة استراتيجية كالقاذفات العملاقة "بي-2" و"بي-52" والغواصات النووية - فقد أثبتت عقمها وفشلها في التأثير حتى على أصغر فصائل المقاومة، أو ثنيها عن مواصلة نضالها ضد الكيان الصهيوني.
لقد شهدت قوى المقاومة، على مدار العام المنصرم، العرض الكامل للقدرات العسكرية الأمريكية المسخرة لدعم "إسرائيل"، ومع ذلك، فإن الرؤية الاستراتيجية للمقاومة ترى بوضوح أن تداعيات توسيع نطاق الحرب، ستكون كارثيةً على المصالح الأمريكية في المنطقة، وستزيد من تصدّع البنية الأمنية الهشة للكيان الصهيوني.