الوقت - في الوقت الذي يخوض فيه الكيان الصهيوني صراعاً محتدماً في غزة ولبنان، تبرز الحاجة الملحة إلى تماسك داخلي غير مسبوق، أملاً في تحقيق بعض المكاسب في مواجهة فصائل المقاومة، بيد أن النهج المتشدد للعناصر المتطرفة في الحكومة، قد أفضى إلى تعميق الشروخ السياسية داخل هذا الكيان.
فبعد أشهر من الخلافات المستعرة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت حول استراتيجية الحرب في غزة، آذن شهر العسل بين الحليفين السابقين بالأفول.
وفي مساء الثلاثاء الماضي، أعلن نتنياهو عن قرار إقالة غالانت، قائلاً: "اتخذت اليوم قراراً بإعفاء غالانت من منصبه، وتعيين يسرائيل كاتس خلفاً له، إن الثقة المتبادلة بين وزير الدفاع ورئيس الوزراء ضرورة لا غنى عنها". وأضاف نتنياهو: "لقد حالت أزمة الثقة بيني وبين غالانت دون إدارة الحرب بكفاءة، وإنني على يقين من أن هذا الإجراء سيفضي إلى أداء حكومي أكثر تماسكاً وفعاليةً".
من جهته، أصدر غالانت بياناً لإماطة اللثام عن الأسباب الجوهرية وراء هذا القرار، حيث أورد ثلاثة دوافع لإقالته قائلاً: "لقد أقدم نتنياهو على إقالتي نظراً لمعارضتي للتشريع الداعي إلى تجنيد الحريديم، ودعمي لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حماس، فضلاً عن مطالبتي بتشكيل لجنة تحقيق في الإخفاقات التي شابت عملية طوفان الأقصى".
وخاطب غالانت الإسرائيليين قائلاً: إن استعادة الأسرى أمر ممكن، بيد أنه يستلزم تقديم تنازلات مؤلمة، وكان قد صرّح سابقاً بأن العمليات العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق جميع الأهداف المنشودة، وأن القوة ليست الحل الأمثل لكل المعضلات.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جيش الاحتلال الصهيوني، وهو يرزح تحت وطأة نقص حاد في القوى البشرية، قد سعى حثيثاً إلى استقطاب اليهود الحريديم للانخراط في صفوفه، أملاً في تخفيف حدة هذه الأزمة المستعصية، بيد أن إذاعة جيش الاحتلال قد كشفت النقاب عن حقيقة صادمة، مفادها بأن نسبة المتجاوبين مع هذا المسعى، لم تتجاوز أربعة في المئة من إجمالي ثلاثة آلاف رجل مؤهل من الحريديم، وذلك منذ يوليو/تموز المنصرم.
وفي ضوء ما أفصحت عنه وسائل الإعلام العبرية، يعاني جيش الاحتلال من عجز فادح يُقدَّر بنحو عشرة آلاف مقاتل، وذلك جرّاء الخسائر الجسيمة التي تكبدها وتورطه في جبهات قتال متعددة، وقد بذل غالانت قصارى جهده لسدّ ثغرة هذا العجز من خلال تجنيد الحريديم، غير أن نتنياهو وضع العراقيل أمام تحقيق هذا المسعى. وكان الحاخام الأكبر للحريديم قد أطلق تحذيراً قاطعاً، مفاده بأن أي محاولة من قبل الحكومة لتجنيد أبناء طائفته، ستفضي حتماً إلى نزوح جماعي عن الأراضي المحتلة.
وثمة عامل جوهري آخر يستدعي التمحيص في سياق إقالة غالانت، ألا وهو أن كلاً من غالانت وهرتسي هاليفي، رئيس أركان الجيش، قد تحملا المسؤولية عن الإخفاق الذريع في مواجهة عملية طوفان الأقصى، مشددين على ضرورة تحمل نتنياهو وغيره من المسؤولين لنصيبهم من هذه المسؤولية الثقيلة، إلا أن رئيس الوزراء، في موقف يفتقر إلى النزاهة والشفافية، قد تنصل كلياً من تحمل أي مسؤولية في هذا الصدد.
بل إن الأمر تجاوز ذلك، حيث كشفت وسائل الإعلام العبرية في مستهل الحرب على غزة عن واقعة خطيرة، مفادها بأن نتنياهو قد أقدم على إتلاف جزء حساس من الوثائق المتعلقة بعملية طوفان الأقصى، والتي تضمنت أدلةً دامغةً على التقصير الفادح من قبل الأجهزة الاستخباراتية والأمنية والحكومة.
جذور الخلافات
لقد برزت انقسامات جوهرية في الرؤى بين توجهات نتنياهو بشأن الحرب في غزة، وتصاعد حدة التوترات على الجبهة الشمالية مع حزب الله منذ سبتمبر المنصرم.
وشهدت الساحة السياسية مواجهات متكررة بين غالانت والتيارات اليمينية المتشددة بزعامة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، اللذين تسابقا لتهنئة نتنياهو عقب إقالة غالانت، وتعكس هذه التطورات عمق الانقسامات المتنامية حول إدارة الصراع في غزة الذي اندلع في السابع من أكتوبر، والذي تشير المؤشرات إلى احتمالية امتداده لسنوات قادمة.
خلال المرحلة الأولى من المواجهات، تجلت مقاربة غالانت الأكثر مرونةً مقارنةً بنهج نتنياهو نحو تسوية الصراع، حيث أبدى تواصلاً أكثر شفافيةً مع عائلات المحتجزين، وأعلن صراحةً عن نضوج الظروف للتوصل إلى اتفاق لتحرير الأسرى، في حين وضع نتنياهو عراقيل متعددة أمام هذا المسار.
وفي تباين واضح مع نهج غالانت، يُصنَّف يسرائيل كاتس، الوزير المُعيَّن حديثاً للحقيبة الدفاعية، ضمن الدائرة المقربة من نتنياهو، ويتبنى سياسته المتشددة تجاه غزة، ومن المتوقع أن يتولى تنفيذ "خطة الجنرالات" الرامية إلى تصعيد العمليات العسكرية، حتى لو استدعى ذلك إخلاء شمال القطاع وترحيل سكانه نحو الجنوب.
وكان غالانت قد وصف إصرار نتنياهو على تحقيق نصر شامل على حماس بأنه غير واقعي، مطالباً إياه بشكل متكرر بصياغة إستراتيجية واضحة لإدارة غزة في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي وثيقة كشفت عنها صحيفة "هآرتس" في الأسبوع المنصرم، أكد غالانت: "أن العمليات العسكرية تفتقر إلى رؤية إستراتيجية واضحة، ويتعين إعادة تقييم أهدافها، والوضع الراهن يقوّض فعالية إدارة المعركة وقرارات المجلس الوزاري المصغر، ولا سيما في ملف التفاوض المباشر، كما أن التصعيد المتبادل بين "إسرائيل" وإيران يستدعي حواراً معمقاً ومراجعةً شاملةً لأهداف الحرب، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الساحات والترابط فيما بينها".
من جانب آخر، اتخذ غالانت موقفاً حازماً برفض كل المقترحات الداعية لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في غزة كقوة احتلال، ما أثار حفيظة التيار المتشدد بقيادة بن غفير وسموتريتش، اللذين لم يخفيا طموحهما في إعادة الهيمنة العسكرية الكاملة على القطاع.
وفي سياق متصل، أثارت تصريحات غالانت المتعلقة بالتحقيق في عملية "طوفان الأقصى" مخاوف عميقة لدى نتنياهو، إذ يخشى أن يؤدي الكشف عن وثائق هذه العملية، إلى تقويض منظومته الدعائية التي بناها على مدار العام المنصرم، وقد تفاقمت هذه المخاوف مع التسريبات الأخيرة لوثائق عسكرية حساسة إلى المنصات الإعلامية، ما دفع نتنياهو للاشتباه في تورط وزير الدفاع في هذه التسريبات.
تشير الوثائق المسربة إلى محاولات حكومة نتنياهو تحميل حركة حماس وقيادتها، المسؤولية الكاملة عن الإخفاقات في ملف الأسرى، غير أن إطلاق تحقيق شامل، كما طالب غالانت، كان من شأنه كشف حقائق قد تؤدي إلى فضيحة سياسية غير مسبوقة لنتنياهو، ما دفعه لاتخاذ خطوة استباقية للحفاظ على موقعه السياسي قبل انكشاف الحقائق.
وفي ظل تعقيدات المشهد الأمني الراهن، حيث تواجه "إسرائيل" تحديات متعددة الجبهات مع حماس وحزب الله وإيران، أثار توقيت إقالة غالانت موجةً من الانتقادات الحادة، حيث اعتبر المراقبون والمعارضون هذا القرار تهديداً مباشراً للمنظومة الأمنية الإسرائيلية.
وعلى الرغم من انتماء غالانت لحزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، إلا أن رئيس الوزراء أقدم على قرار الإقالة، مدركاً أن هذه الخطوة لن تؤثر على استقرار ائتلافه مع القوى اليمينية المتطرفة، ويبدو أن هذا القرار يعكس محاولة نتنياهو لإزاحة ما يعتبره العقبة الرئيسية أمام تنفيذ مخططاته التوسعية في غزة.
تفاقم الانقسامات السياسية والأمنية
في غمرة التطورات المتسارعة على الساحة الإسرائيلية، تبرز إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت كحدث محوري يُنذر بتداعيات جسيمة، فبينما قد يُفضي هذا القرار إلى تماسك ظاهري داخل الحكومة، إلا أنه يُرجَّح أن يُفاقم التحديات الميدانية التي يواجهها نتنياهو في غزة ولبنان بشكل غير مسبوق.
تكشف تصريحات غالانت العاجلة عقب إقالته، عن استراتيجية مدروسة للتنصل من المسؤولية عن الإخفاقات العسكرية في غزة، وفي المقابل، يتجلى التناقض الصارخ بين طموحات القيادة السياسية المتمثلة في القضاء على حماس، وبين الواقع العسكري الذي يراه قادة الجيش الإسرائيلي مستحيلاً، وهذا التباين يُنذر باستنزاف متزايد للموارد البشرية والمادية الإسرائيلية مع استمرار الصراع.
وفي هذا السياق، يسعى غالانت - الذي كان يتولى زمام الأمور الميدانية - إلى تحويل دفة اللوم نحو نتنياهو، متهماً إياه بتجاهل الخطط العسكرية وتعريض فرص استعادة الأسرى للخطر، وهذا التكتيك يهدف إلى تأجيج الرأي العام ضد الحكومة، وتصعيد الضغوط عليها.
من جانب آخر، تتصاعد الانتقادات الموجهة لنتنياهو من قِبل المعارضة والرأي العام، متهمين إياه بتغليب مصالحه الشخصية والسياسية على حساب أمن المستوطنين، ومع تكشف المزيد من الحقائق حول مجريات الحرب في غزة، يُتوقع أن تشهد الساحة الإسرائيلية تصعيداً في وتيرة الاحتجاجات، كما تجلى ذلك في الاحتجاجات العفوية التي اندلعت عقب إقالة غالانت، ما استدعى تدخلاً أمنياً مشدداً حول مقر إقامة نتنياهو في القدس.
في هذا الخضم، تستغل المعارضة بقيادة يائير لابيد هذه الفرصة لحشد الجماهير ضد حكومة نتنياهو، داعيةً الإسرائيليين للنزول إلى الشوارع في موجة احتجاجية غير مسبوقة.
وعليه، فإن إقالة غالانت، بدلاً من أن تعزز استقرار حكومة نتنياهو، قد تؤدي إلى تعميق الشروخ الداخلية بشكل دراماتيكي، وقد عبّر عن هذا القلق إسحاق هرتسوغ، رئيس الکيان، محذراً من أن "أعداء إسرائيل يترقبون أي بادرة ضعف أو انهيار أو انقسام داخلي"، داعياً القيادة الإسرائيلية إلى التحلي بأقصى درجات المسؤولية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الكيان.
في الأثناء، تلقي الشروخ الداخلية بظلالها الثقيلة على ساحات المواجهة، مُفرزةً تبعات وخيمة بدأت ملامحها تتبلور بوضوح جلي، فقد أبدى عدد من كبار القادة العسكريين، في أعقاب الإطاحة المفاجئة بغالانت، معارضةً صريحةً وغير مسبوقة لاستمرار العمليات العسكرية في كل من غزة ولبنان، ما يشير إلى تصدّع خطير في البنية العسكرية الإسرائيلية، وتآكل التماسك الداخلي.
إن القادة الميدانيين، الذين يستشعرون نبض الواقع بعيداً عن الخطاب السياسي المنمّق، قد استنفدوا كل أمل في تحقيق انتصارات ملموسة ضد فصائل المقاومة في الجبهتين الجنوبية والشمالية، وفي مسعى حثيث للضغط على نتنياهو لوضع حدّ للصراع المستعر، يلجأ هؤلاء القادة إلى استراتيجية العصيان المبطن وإفراغ ساحات القتال، وهذا الانشقاق المتنامي بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية، يضع نتنياهو في مأزق استراتيجي عويص، يصعب الخروج منه دون خسائر فادحة.
وما يثير الاستغراب والتساؤل، أن المبررات الرئيسية التي ساقها غالانت لإقالته تنحصر في إطار الحرب على غزة، متجاهلاً بشكل لافت الجبهة الشمالية المشتعلة، ويأتي هذا التجاهل المريب، في وقت يتكبد فيه جيش الاحتلال خسائر استراتيجية في مواجهة حزب الله خلال الفترة الأخيرة، دون أن تتبلور لديه رؤية واضحة أو استراتيجية محكمة لتحقيق أي إنجاز على هذه الجبهة.
يتوهم الوزراء المتشددون في حكومة نتنياهو، أن إزاحة غالانت من المشهد ستفتح الباب واسعاً أمام تحقيق انتصارات حاسمة على الحدود اللبنانية، بيد أن هذا التصور القاصر سيقودهم حتماً إلى التورط أكثر في هذا المستنقع، إذ إن تصاعد حالات التمرد والعصيان في صفوف الجنود، سيجعل من استمرار المعارك أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد.
وفي ظل تواصل الدعوات المتصاعدة لتنظيم احتجاجات شعبية واسعة النطاق تنديداً بإقالة غالانت، وبالتزامن مع انفتاح جبهات متعددة ومتنوعة ضد الكيان الصهيوني، تجد حكومة نتنياهو نفسها تسير بخطى متسارعة نحو هاوية سياسية وعسكرية لا مفر منها.