الوقت- مع بداية الحرب الأوكرانية التي تركت أثراً واسعاً على القضايا الجيوسياسية على المستوى العالمي، أصبحت منطقة القوقاز أكثر أهمية من أي وقت مضى في "اللعبة الكبيرة" بين القوى، ومن الدول المهمة في هذه المنطقة الاستراتيجية جورجيا التي أصبحت في العقدين الأخيرين مكانا للتنافس بين روسيا والغرب بسبب إجراء انتخابات صعبة.
وأجريت الجولة الجديدة من الانتخابات البرلمانية في جورجيا في الـ 26 من أكتوبر (5 نوفمبر)، وحسب النتائج الرسمية، فاز حزب "الحلم الجورجي" (المقرب من روسيا) بزعامة بيدزينا إيفانيشفيلي بنسبة 54 بالمئة من الأصوات، في حين جاء ائتلاف المعارضة الرئيسي الموالي للغرب في المركز الثاني بنسبة 37.58 بالمئة، وفاز حزب الحلم الجورجي الحاكم بما يصل إلى 90% من الأصوات في المناطق الريفية، لكنه حقق نتائج أضعف في تبليسي وغيرها من المدن الكبرى.
وبهذه النتيجة، حصل حزب حلم جورجيا على 91 مقعدا من أصل 150 مقعدا في البرلمان للحصول على النصاب اللازم لتشكيل الحكومة، لكن هذا العدد لا يزال أقل من الأغلبية المطلقة اللازمة لإقرار التعديلات الدستورية لإحداث تغييرات جذرية في السياسات والاحتياجات ضد المعارضين.
ومن النقاط البارزة في هذه الجولة الانتخابية ثقل ظلال الحرب في أوكرانيا وصراع روسيا مع الجبهة الغربية، بحيث كان التحذير من تكرار الحرب في أوكرانيا في جورجيا هو الشعار الرئيسي لـ "حلم جورجيا"، وحذر هذا الحزب الشعب من أنه إذا انتصر الغربيون، فإن المواجهة مع روسيا ستؤدي إلى دخول جورجيا في حرب مع روسيا وتكرار الوضع في أوكرانيا.
كما أن نتائج الانتخابات لم تعجب الغربيين، ففور إعلان النتائج زعموا التزوير، واتهمت سالومي زورابيشفيلي، رئيسة جورجيا الموالية للغرب، روسيا بالتدخل وتزوير الانتخابات في البلاد، ووصفت ذلك بـ"العمليات الخاصة الروسية"، وقالت تينا بوكوتشافا، زعيمة حزب الحركة الوطنية المتحدة المعارض: إن الانتخابات "سرقت" ودعت إلى مظاهرات عامة.
وبناء على طلب زعماء المعارضة، نزل الآلاف من أبناء الشعب الجورجي إلى الشوارع للتعبير عن معارضتهم لنتائج الانتخابات الأخيرة والمطالبة بإعادة الانتخابات.
وقالت مجموعة من مراقبي الانتخابات البارزين في جورجيا في وقت سابق إنهم اكتشفوا أدلة على وجود مخطط تزوير معقد وواسع النطاق أدى إلى التأثير على النتائج لمصلحة الحزب الحاكم.
ورغم أنه بعد الاحتجاجات الداخلية، أعيد فرز الأصوات في بعض مراكز الاقتراع، لكن هذه المرة لم يطرأ تغيير يذكر على النتائج الرسمية المعلنة سابقا، ولا يزال بإمكان الحزب الحاكم تشكيل الحكومة بأغلبية المقاعد، لكن أحزاب المعارضة قالت إنها لن تدخل البرلمان الجديد الذي وصفته بأنه "غير قانوني"، ودعت إلى إجراء انتخابات جديدة.
ووصف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذان يعتبران نتائج الانتخابات الجورجية فاشلة للغاية، النتائج بأنها غير قانونية وشددا على إجراء تحقيق كامل في نتائج الانتخابات.
وفي حين حذر الاتحاد الأوروبي قبل الانتخابات من أن ذلك سيكون اختبارا حاسما للديمقراطية الوليدة لمرشحة الاتحاد الأوروبي تبليسي، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضا انتخابات جورجيا بأنها "انتكاسة ديمقراطية" في البلاد، ما يشير إلى أهمية التحول السياسي في جورجيا، في ظل حالة التنافس الجيوسياسي بين موسكو وواشنطن في منطقة القوقاز.
التغيرات في السياسة الخارجية لجورجيا
ما لا شك فيه أن فوز الروس في البرلمان الجورجي سيكون له تأثير على السياسة الخارجية، ورغم أن المعارضة لا تزال مصرة على مطالبها بإعادة انتخابها، إلا أنه لا يبدو أنها تستطيع إحداث تغيير كبير في المعادلة السياسية الجديدة، ولذلك، فإن اكتساب الأحزاب الموالية لروسيا للسلطة يدفع قادة تبليسي إلى البحث عن بعض التغييرات في استراتيجية سياستهم الخارجية، وبالنظر إلى الظروف الحرجة التي يمر بها النظام الدولي، فإن القادة الجدد في تبليسي سيحاولون اعتماد سياسة صحيحة ومدروسة من أجل تجنب عواقب هذه الأزمات.
ونظراً لاستمرار المواجهة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، فإن حزب "حلم جورجيا" يظهر نفسه باعتباره حصناً ضد الصراع مع روسيا، في حين ترى أحزاب المعارضة أن انتصارها هو السبيل الوحيد للحفاظ على ديمقراطية جورجيا والأمل في عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث إن "حلم جورجيا" هو محاولة إبعاد هذا البلد تدريجيا عن طريق التغريب، وقد دعا صراحة إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين روسيا وجورجيا.
أهمية جورجيا في المنافسة بين روسيا والغرب
لسنوات طويلة، أصبحت منطقة القوقاز إحدى جبهات المعركة الجيوسياسية بين روسيا والغرب، وإن القرب الجغرافي لهذه المنطقة من حدود روسيا وأولوية المصالح الأمنية والجيوسياسية للروس في منع الناتو من الوصول إلى حدودها ووضعها في السياج الأمني للغرب، كان من ضمنها حساسيات موسكو تجاه التطورات في منطقة القوقاز.
وفي السنوات الأخيرة، وخاصة بعد حرب 2020 بين أرمينيا وجمهورية أذربيجان، تتجه حكومة يريفان، التي رأت أن الدعم العسكري الروسي ضد تهديدات باكو غير كاف، نحو توسيع العلاقات السياسية والعسكرية مع الغرب، وقد أدى ذلك إلى إضافة أهمية لجورجيا باعتبارها الجانب الآخر من التطورات في القوقاز.
وتخطط روسيا لإعادة الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى مدارها وعرقلة طريق الناتو إلى القوقاز وآسيا الوسطى، ونظراً لأن جورجيا هي بوابة أوروبا من القوقاز، ولها موقع استراتيجي مهم، فقد فتح الروس حساباً خاصاً لهذا البلد.
وكانت جورجيا إحدى الدول التي، على الرغم من ضغوط الغرب، لم تدن الهجوم الروسي على أوكرانيا ورفضت الانضمام إلى العقوبات ضد موسكو، وبعد الحرب في أوكرانيا، أصبحت منطقة القوقاز منطقة مهمة لطرق التجارة العالمية ومساحة للمنافسة الجيوسياسية ومركزًا لنقل الطاقة.
تلعب هذه المنطقة أيضًا دورًا رئيسيًا في شبكات الاقتصاد والنقل بين آسيا وأوروبا، وينقل خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان نفط بحر قزوين إلى أوروبا، ويفعل خط أنابيب باكو - تبليسي - أرضروم الشيء نفسه بالنسبة للغاز الطبيعي، ولذلك، فإن دور العبور لكلا المشروعين يمكن أن يساعد هذا البلد على أن يصبح مركزًا للأعمال بين أوروبا وآسيا.
وفي هذا الوضع، عندما تُمنع روسيا من الوصول إلى الطرق الأوروبية بسبب العقوبات الغربية، فإنها تبحث عن طرق عبور في الجنوب للتخلص من ضغط العقوبات بمساعدة جمهوريتي القوقاز وآسيا الوسطى، وتستطيع جورجيا مساعدة موسكو في هذا الطريق.
ومن ناحية أخرى، فإن انتصار الروس في جورجيا يظهر القدرة الرائعة التي يتمتع بها الكرملين على عكس عملية استمرت عقوداً من الجهود الرامية إلى دمج هذا البلد في الاتحاد الأوروبي.
ظلت جورجيا لسنوات تعتبر إحدى أكثر الدول الغربية الخارجة من الاتحاد السوفييتي السابق، رغم أن استطلاعات الرأي أظهرت أن الكثير من الجورجيين يكرهون روسيا لدعمها إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين، إلا أن نتائج الانتخابات الأخيرة أظهرت أن هذا المنظر بين الجورجيين غير لونه إلى حد ما.
إن انتصار حلم جورجيا سوف يشكل هزيمة كبرى للغرب، لأنه من شأنه أن يمكن روسيا من تعزيز قدرتها الاقتصادية وقوتها الناعمة في مواجهة الغرب.
إن الولايات المتحدة وحلفاءها، الذين يحاولون إعادة تنفيذ سياسة "الستار الحديدي" ضد روسيا، في حاجة ماسة إلى المساعدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، في العامين الماضيين، حاول الناتو الاقتراب من حدود يريفان وروسيا من خلال تصفح أزمة كاراباخ والتوتر بين أرمينيا وروسيا، كما تم إعطاء زعماء أرمينيا وعودا بنصف المدة لعضوية هذا البلد في الناتو ومفوضيات الاتحاد الأوروبي.
وهذه المرة، حاول الغربيون تحقيق هذا السيناريو في جورجيا أيضاً، من أجل انتزاع القوقاز تدريجياً من أيدي الروس، لأن وجود الناتو في القوقاز يشكل أداة ضغط قوية للتعامل مع روسيا، وبهذه الطريقة يمكنهم الضغط على موسكو لسحب جزء من قواتها من أوكرانيا، لذا، ومع نتائج الانتخابات الأخيرة في جورجيا، فإن محاولة الغرب لدخول منطقة القوقاز سوف تواجه تحدياً أساسياً.
إن حزب حلم جورجيا يفهم الواقع الإقليمي والدولي جيداً ولا يريد أن يتحول إلى ساحة صراع بين الشرق والغرب مثل أوكرانيا، ولم يكن لنتائج الحرب في أوكرانيا، التي لعب الغرب الدور الرئيسي في إشعالها، سوى الدمار لهذا البلد، وكان هذا درسا للجورجيين، ومرة في عام 2008، خدعت جورجيا بوعود الغرب ودفعت ثمنا باهظا، وهي لا تريد أن يتكرر هذا الأمر مرة أخرى.
وحسب بعض الخبراء، فمن المرجح مع انتصار الروس أن تقوم الحكومة الأمريكية الجديدة، التي خسرت أمام منافسها التقليدي، بتطبيق سياسات عقابية ضد تبليسي للتعويض عن الأخطاء، بحيث تضطر الحكومة الجورجية إلى أن تظهر مرونة في سياساتها المعلنة تجاه الغرب.
مع موجة المعارضة الغربية الواسعة لنتائج الانتخابات الجورجية وتحريض الشعب على مواصلة الاحتجاج ضد الحزب الحاكم، يبدو أن أمريكا تخطط بعد عقدين من الزمن لتنظيم ثورة مخملية أخرى مثل "الثورة الوردية" 2003 في هذا البلد، لكن هذه المرة لن تسمح روسيا بذلك، ولن تسمح لواشنطن بزعزعة استقرار حدود الاتحاد السوفييتي السابق.