الوقت- من إغلاق السفارة البريطانيّة في تركيا، إلى الحد من خدمات البعثات الدبلوماسية الألمانية وإغلاق المدارس ومراكز الثقافة والقنصليات التابعة لها، في انحاء تركيا هناك رسالة غربيّة موجّهة إلى أنقرة والعالم عنوانها:" تركيا، لم تعد آمنة، وتتّجه نحو الإضطرابات والهجمات الإرهابية التي تهدد أرواح السيّاح والتجّار الذين يريدون السفر إلى هذا البلد".
يبدو أن الأزمة القائمة بين أنقرة والإتحاد الأوروبي تتصاعد شيئاً فشيئا، فقد كشفت الإجراءات الأوروبيّة الأخيرة التي جاءت بعد يومين على مطالبة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، السفير الأمريكي في بلاده بالإلتزام بإتفاقية فيينا التي تنظم العمل الدبلوماسي بين الدول بما يحافظ على سيادة كل منها، عن قرارغربي (أوروبي وأمريكي) للضغط على تركيا التي تعيش جملةّ من المتغيّرات على صعيدي الداخل والخارج، على حدّ سواء.
فقد أعلنت السفارة البريطانية في تركيا أنها ستغلق أبوابها يوم الجمعة لأسباب أمنية، في حين أفادت السفارة الألمانية في أنقرة أن في تركيا ستقدم خدمات محدودة حتى اليوم. وقالت صحيفة "بيلد" الألمانية أن البعثات الدبلوماسية والمدارس الألمانية في تركيا مغلقة خشية هجوم.
تركيا، وعلى وجه السرعة أبدت تعاونها خشية تطوّر الامر إلى سحب السفارات، فقد ذكرت وكالة "الأناضول الرسمية" للأنباء أن السلطات التركية اعتقلت أربعة أفراد في إطار تحقيق في تهديد محتمل للبعثتين الديبلوماسيتين الألمانية والبريطانية لكنها لم تجد صلة تربط بين المشتبه بهم وأي جماعة إرهابية.
أسباب داخلية
لا يختلف اثنان على هشاشة الوضع الداخلي في تركيا، لاسيّما في ظل التهديدات التي تتلقّاها أنقرة من تنظيم داعش الإرهابي من ناحية، و"حزب العمال الكردستاني" من ناحية أخرى، إلا أن التصرّف الألماني البريطاني الذي يأتي بعد أقل من 48 ساعة على تدخّل السفير الأمريكي في الشؤون الداخلية، يؤكد نيّة هذه الدول استخدام ذرائع الداخل التي تتنوّع ما بين الهشاشة الأمنية، وسياسة التصفية التي يقوم بها الرئيس أردوغان والحزب الحاكم بحق المخالفين كان آخرها تعيين 28 رئيس بلدية جديد في عموم البلاد، وعزل آخرين بتهمة الضلوع في الإنقلاب الفاشل.
أسباب خارجيّة
وبالتأكيد، فإن أردوغان يستخدم قضيّة الإنقلاب الفاشل كـ"قميص عثمان" لتصفية خصومه في الداخل، إلا أن الذرائع الغربية تتعلّق بمستجدات الموقف التركي على الصعيد الخارجي حيث لم يرق التدخّل التركي الأخير في جرابلس، فضلاً عن جملة من المواقف الأخرى، والتي نلخّصها بالتالي:
أولاً: أظهر الغرب عموماً، وأمريكا على وجه الخصوص، امتعاضاً عن التقارب التركي الروسي الذي حصل في الآونة الأخيرة، باعتبار أن ابتعاد أنقرة عن حلفاءها التقليديين سيضعّف "الناتو" لصالح روسيا. لم يتقصر التحوّل التركي على موسكو فحسب، بل طفا على السطح مؤخراً بوادر عن تقارب مع دمشق الأمر الذي يشكّل خرقاً دبلوماسيّاً غير مسبوق فيما لو حصل.
ثانياً: لم تتوصّل أنقرة مع الاتحاد الأوروبي إلى نتيجة نهائية فيما يخصّ اللاجئين، وقد أبرزت العديد من الاحزب الألمانية امتعاضها من أزمة تدفّق اللاجئين. صحيفة "كوميرسانت" تناولت ما بثته قناة "ARD" من مراسلات الداخلية الألمانية مع أحزاب "اليسار" المعارضة؛ حيث سُميت تركيا "موقعا أماميا للإسلامويين". وقد ردت الحكومة التركية على هذه الاتهامات بأنها تعبير عن "الانحراف في التفكير" والعداء للحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان بصورة خاصة. كذلك، اعتبرت الزعيمة البرلمانيّة لحزب الخضر المعارض في حديث مع صحيفة دي فيلت الألمانية، أن اتفاقية اللاجئين مع تركيا "فشلت بشكل نهائي"، وذلك على إثر نشر تقرير سرّي يتهّم أنقرة بالتعاون مع الجماعات الإرهابية، في حين دعا وزير المالية لمواصلة التعاون مع أنقرة.
ثالثاً: لم تبد واشنطن حماسته لعملية درع الفرات، وذلك على إثر التقارب الروسي التركي التي تشوبه حتى الساعة جملة من الخلافات التي قد ترتفع في حال قرّرت واشنطن السير نحو الصدام مع أنقرة. فقد أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها نشرت قوات خاصة بسوريا لدعم القوات التركية وما يسمّى بـ"المعارضة المعتدلة" في هجومها على تنظيم داعش، وذلك بعد أيام على نفي قائد القوة الجوية للقيادة المركزية للجيش الأمريكي الفريق جيفري هاريغان أن يكون لعملية "درع الفرات" التي تقودها تركيا لدعم "الجيش السوري الحر" في حربه ضد تنظيم "داعش" الإرهابي تأثير على جهود محاربة التنظيم المتطرف.
في الخلاصة، يبدو أن الغرب يعد العدّة لانقلاب جديد بنكهة جديدة عنوانها غياب الحريّات والفلتان الأمني وسياسة تكميم الأفواه، لذلك لا نستغرب إصدار العديد من المنظمات الحقوقية الأمريكية تقارير حول انتهاكات تركية في السجون، وذلك بغية إعادة وضع الرئيس التركي إلى مرحلة ما قبل الإنقلاب الفاشل. في المقابل، اعتدنا على أن يذهب أردوغان في المواجهة إلى أبعد حدودها، تماماً كما فعل مع سوريا ومصر وروسيا، وبالتالي لن يقف مكتوف الأيدي أمام أي تحرّكات غربية، بل سيعيد ملفّ اللاجئيين إلى الواجهة من بابه الواسع، فضلاً عن الوضع الميداني في سوريا.
قد لا ندري التفاصيل اللاحقة لهذه الخطوة الغربية وتداعياتها، ولكن في لبنان عام 1975، وفي سوريا 2011، واليمن 2015، كانت الحرب الأهلية (لبنان) والتدخّل العسكري الخارجي(سوريا واليمن) الخطوة التالية للتطورات الدبلوماسيّة التي تصل إلى ذروتها عند سحب السفراء. فهل تغيّر تركيا موقفها وترضخ لعملية الإبتزاز الغربي، أم أننا سنكون أمام مشهد سحب السفراء، وما بعده، قريبا؟