الوقت- ثمة شيء مهم ولافت في اللهجة التصعيدية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع إيران. ربّما لا تعجب الكثير من حلفائه وأعدائه، على حدّ سواء. فقد اعتاد الرئيس السمين الأشقر على إطلاق الشعارات "الإعلاميّة"، بذریعة أو بدونها، ضدّ إيران، والتي تذكّرنا بشعاراته الإنتخابيّة المتسرّعة حيث تعهّد بنقل السفارة في اليوم الأوّل لرئاسته، وسجن هيلاري كلينتون وعشرات الوعود المماثلة التي تبخّرت قبل أن يخفت صوتها في آذاننا.
وحتى الساعة تُختصر التهديدات الأمريكية بالشاشات الرقميّة وأجهزتها، ورغم اقتناع بعض المحللين السياسيين بأن أمريكا تستعد للحرب، تصف الأغلبية الساحقة تهديدات ترامب بـ"القنابل الإعلاميّة". وعلى هذا الأساس نسأل لماذا لا تستطيع أمريكا شنّ أي عملية عسكرية، وحتى ضيّقة جدّاً، ضد إيران، باعتبارنا نتبنى وجهة النظر الثانية، أي الهجوم الإعلامي فقط.
أسباب أساسيّة عدّة تفسّر العجز الأمريكي في الدخول في مواجهة عسكريّة مباشرة مع إيران يجب اختصارها في النقاط التالية:
أوّلاً: عدم قدرة أمريكا في الحصول على إجماع دولي لأي مواجهة عسكريّة مع إيران، في ظل وجود روسيا والصين، وبالتالي إن بوابة الأمن مقفلة أمام أي تحرّك أمريكي عسكري ضد طهران.
ثانياً: قد لا تعير أمريكا اهتماماً بمجلس الأمن كما فعلت في غزو العراق عام 2003 حيث أكّدت كل من روسيا والصين وفرنسا حينها وهم من الأعضاء الدائميین في مجلس الأمن ان القرار 1441 لاتعطي الصلاحية باستعمال القوة ضد العراق، إلا أن الجيش الأمريكي المستنزف منذ احتلال أفغانستان والعراق غير قادر اليوم على شنّ أي حرب جديدة. وقد ساهمت التوتّرات الأمريكية مع روسيا والصين في نشر جزء كبير من الجيش الأمريكي في المناطق المحاذية لهذه الدول.
ثالثاً: وحتى لو سلّمنا جدلاً بالقدرة العسكرية للجيش في شنّ عملية عسكرية ضدّ إيران، فهذا الأمر يتطلّب قدرة اقتصادية صلبة تموّل هذه الحرب في ظل وجود اقتصاد أمريكي هش. تكفي الإشارة إلى أن الرئيس ترامب قد قال أمس الإثنين أن بلاده أنفقت ستة ترليونات دولار في الشرق الأوسط بينما البنى التحتية في أمريكا ضعيفة، فكيف لها أن تموّل الحرب؟
رابعاً: قد يقول قائل أن السعودية مستعدّة لتمويل هذه الحرب في ظل صراعها القائم مع إيران، ولكن هل يكفي التمويل السعودي؟ ألا يحتاج الأمر إلى إجماع داخلي أمريكي يصعب الاستحصال عليه نظراً لتضرّر كافّة المصالح الأمريكية في المنطقة. إن ترامب نجح في كسب أصوات "فقراء" أمريكا بسبب شعاراته الاقتصاديّة، وبالتالي فإن أي دخول في مواجهة مع إيران تعني ما تعنيه من المواجهة الداخليّة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي من ناحية، والحزب الجمهوري نفسه من ناحية أخرى.
خامساً: وحتى لو حصل ترامب، الذي تحدّث سابقاً عن شعار التوجّه نحول الداخل بدل الحرب، على موافقة داخلية، لا ندري موقف جهاز الأمن القومي وأجهزة الاستخبارات من هذه الحرب لإدراكهم المسبق بتوسيع حلقة النار التي قد تشمل حينها الشرق الأوسط بأكمله.
سادساً: لا تقتصر التداعيات على الشرق الأوسط فحسب، بل على العالم لأسباب تتعلّق بأهمية المنطقة تارةً، ومواردها الاقتصاديّة من النفط والغاز أخرى. ربّما تنجح أمريكا في الصمود أمام قطع الإمدادات النفطيّة، ولكن ماذا عن أوروبا والصين وبقيّة دول العالم؟
سابعاً: قد تنجح أمريكا في تأمين الأسباب المذكورة أعلاه كافّة، إلا أن الرادع الأساسي الذي سيحول دون أي حرب أمريكية يتعلّق بالانسجام الداخلي الإيراني، وقدرات الردع الاستراتيجية الإيرانيّة، على حدّ سواء. ولعل أحد أبرز أسباب الهجوم الأمريكي على إيران منذ توقيع الاتفاق النووي يتعلّق بقدراتها الصاروخيّة التي تقف سدّاً منيعاً أمام أي هجوم خارجي. وفي حال حاولت أمريكا جرف هذا السدّ عسكريا سنكون أمام سيل عسكري إيراني آخر قد يجرف العديد من الدول المتواطئة مع أمريكا وفي مقدّمتها الكيان الإسرائيلي.
ونسأل مجدّداً: إذا كان ترامب لا يعي هذه النقاط فهذه طامّة كبرى، ولكن إذا كان يعيها، وهو ما نرجّحه، لماذا يستمرّ ترامب بمهاجمة إيران إذاً؟
لعل أبسط إجابة على هذا السؤال تتعلّق برؤية ترامب التجاريّة التي تنتطلق من مبادئ اقتصادية قوامها الربح والخسارة، فكل ربح للطرف المقابل هو خسارة لنا، والعكس صحيح، أي لا توجد هناك معادلة رابح-رابح في قاموسه. وبما أنّ ترامب يرى في الاتفاق النووي ربحاً محضاً لإيران، وبالتالي فإن الخاسر هو الطرف المقابل أي أمريكا. وعلى هذا الأساس أي تهديد، ولو حتى لفظي فقط، يعمل على تضعيف الإجماع العالمي مع إيران يفسّر رؤيته التجاريّة.
في الخلاصة، إن تهديدات ترامب لا تعدو عن كونها فقاعات إعلاميّة لن تتعدّى الشاشات الإعلاميّة، وتهدف بشكل رئيسي للحد من مكاسب طهران السياسيّة والاقتصاديّة بعد الاتفاق النووي، فلا يعوّل الفرحين بها عليها كثيراً.