الوقت - بضعة أسابيع فقط تفصل الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب عن الموعد المحدّد لدخوله إلى البيت الأبيض. فانطلاقا من يوم من 20 كانون الثاني/يناير المقبل، سيتولّى ترامب سدّة الرئاسة، لتصله صباح كلّ يوم تقارير وكالة الاستخبارات المركزيّة، سواءً بشكل مباشر عبر ضباط المخابرات أو مستشار الأمن القومي الذي يقدّمها بعد ذلك إلى الرئيس.
وبعد هذا التاريخ، يبدأ الرئيس الأمريكي بمواجهة القضايا والمشكلات التي تلفّ العالم بمؤازرة إدارته الجديدة التي نرى فيها ترامب المتطرّف هو الأكثر اعتدالاً مقارنة مع بطانته الجديدة التي تتشابه كثيراً مع كبار صقور إدارة بوش، الأمر الذي ينذر بحقبة قد تكون الأسوأ في تاريخ المنطقة والأكثر دمويّة.
بعد هذا التاريخ أيضاً، سيشرع الرئيس الأمريكي، إذا ما قرّر ذلك، بتحقيق كافة الوعود التي أطلقها قبل هذا التاريخ (20 كانون الثاني/يناير 2017). ترامب سيبدأ أولاً بفرز وعوده الإنتخابية حيث سيقسّمها على ثلاثة أقسام، الأولى منتهية الصلاحية وغير قابلة للتدوير، والثانية تحتاج إلى بعض التدوير لتتلاءم مع ترامب الرئيس وليس ترامب المرشّح، وأما الأخيرة فهي تلك الوعود "الاستراتيجية" التي بنى عليها ترامب حملته الإنتخابية تحت شعار "أمريكا أولا"، بدءاً من الإنسحاب من اتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" في اليوم الأول من ولايته، كما وعد في وقت سابق، وصولاً إلى تخلّي إدارته عن سياسة "إسقاط الأنظمة" في دول أخرى، وفق الوعد الذي أطلقه أمس الأربعاء في خطاب ألقاه بولاية كارولينا الشمالية، والذي سيكون موضع بحثنا هنا.
لم يقتصر كلام ترامب الذي أطلقه في ولاية كارولينا الشمالية على التراجع عن سياسة "إسقاط أنظمة لا نعرف شيئا عنها ولا يجب أن نتعامل معها"، بل اعتبر أن "هذه السلسلة المدمرة من التدخلات والفوضى يجب وضع حد لها في نهاية المطاف"، وأوضح أنه سيستخدم القوات المسلحة فقط في حال كان ذلك يصب في مصلحة أمريكا، مشيرا إلى أنه من الضروري "تركيز الجهود على مكافحة الإرهاب وتدمير "داعش"، ونحن سنقوم بذلك، وأن أي دولة تشاطرنا هذا الهدف ستكون شريكا لنا".
يحمل كلام ترامب الجديد اعترافاً جديداً، تحدّثنا عنه منذ زمن، ليس نحن فحسب، ولا العديد من دول المنطقة أيضاً، بل حتّى حلفاء أمريكا في الطرف الآخر من المحيط، ولكن كيف سيكون تنفيذ هذه الإعترافات خلال السنوات الأربع المقبلة على الأقل؟
لا نرى أمراً جديداً في اعترافات ترامب، سواءً لناحية إسقاط الأنظمة التي وردت سابقاً في وثائق ويكيليكس، إضافةً إلى تجسّس أمريكا على قادة العالم، أو لناحية جهله بهذه الانظمة، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما وصفه بالجاهل بالسياسة الخارجية، وهو الأمر الذي أكّده 50 خبيراً جمهورياً، ليضيفون "ترامب جاهل وغير كفء ولا يصلح لرئاسة أمريكا".
اعتراف رسمي
كلام ترامب يتناسب مع شعاره الانتخابي حول بناء أمريكا قويّة من الداخل، أي التركيز على الوضع الداخلي، كما فعلت واشنطن بعد الحرب العالميّة الأولى. إلا أنّه في الوقت عينه يشرح رؤية شريحة واسعة من الشعب الأمريكي، الأغلب وفق بعض المراقبين، وهي رؤية تنم عن أزمة عميقة في الداخل الأمريكي يسعى ترامب لمواجهتها اليوم.
لا نعوّل على كلام ترامب، ولا أي رئيس أمريكي آخر، ليس من منطلق الكره لأمريكا بسبب الأزمات التي افتعلتها في المنطقة بغية تحقيق مصالحها السياسيّة والاقتصاديّة وكلّفتنا ملايين الشهداء والجرحى، بل بناءً على تجربتنا مع وعود أسلافه سواءً بوش الإبن، أو أوباما خلال الدورتين الاولى والثانية.
تجارب سابقة
عند البحث في تجليات وعود أسلاف ترامب نرى أنّها لا تتعدّى الشاشات الإعلاميّة، وحتى لو تمّ تنفيذها في الشكل، تكون مختلفة في المضمون. "الحرب على الإرهاب"، هي العبارة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، عقب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، إلا أن تطبيقها على أرض الواقع كان أمراً مختلفاً حيث انتهكت سيادة العراق تحت ذريعة "أسلحة الدمار الشامل التي لم تظهر حتّى كتابة هذه السطور، مخلّفة مئات الآلاف من الشهداء والجرحى العراقيين، أغلبهم من المدنيين، فضلاً عن ظهور تنظيم القاعدة من رحم طالبان. وقبل ذلك، في أفغانستان التي لا تزال تعاني اليوم من ويلات الحرب الأمريكية لمواجهة طالبان وليدة حقبة بيل كلينتون.
في مرحلة أوباما، غاب شعار سلفه بوش عن قاموس الرئيس الأمريكي المنتخب خلال دورته الأولى حيث لم يأت خلال حفل تنصيبه على ذكر تعبير "الحرب على الإرهاب"، التي عادت بقوّة في دورته الانتخابيّة الثانية، لأسباب تتعلّق بهيكلية النظام الحاكم. وعود أوباما الفارغة في منطقتنا كثيرة جدّاً، لا أتحدّث هنا عن الازدواجيّة الأمريكية، بل عن وعود أوباما الذي أعلن أنه يناهض الحروب ويأمل في إنهاء الحرب الأمريكية قبل انتهاء ولايته، لكن تلك الآمال قد تبددت بعد تأجيل الخروج الأمريكي من أفغانستان لمرّات عدّة، الأمر الذي دفع حركة طالبان لمطالبة ترامب مؤخراً، بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان.
قد يقول قائلٌ، إنّه لا يصح محاكمة ترامب الصريح على أفعال أسلافه، فهو أظهر بصراحة مواقفه من المسلمين وغيرهم، وهي صراحة كادت تطيح به، وهذا الكلام فيه شيئ من الصواب، خاصّة أن البعض يرى في ترامب نقلةً نوعيّة في النظام الأمريكي عبر وصول رجل اقتصادي من خارج النظام إلى سدّة الحكم، إلا أن الفروقات التي لمسناها بين ترامب المرشّح وترامب الرئيس، وهي فروقات تتعلّق بهيكلية النظام الأمريكي وطبيعة اتخاذ القرار رغم الدور الأساسي لشخص الرئيس، وكذلك، تشابه فريق ترامب المنتخب من حيث التجربة والانتماء لفريق بوش الإبن، دفعنا للحكم مسبقاً على أفعال ترامب ووعوده.
ترامب، هو الوحيد الذي يمتلك القدرة على إثبات صدق رؤيتنا أو عدمها، فالكلام سهل، والتنفيذ صعب إن لم يكن مستحيلاً، فلنرتقب وإنا لمنتظرون!