الوقت- وضعت جماعة "داعش" الإرهابية، التي فشلت في الحفاظ على خلافتها الإسلامية المزعومة في العراق وسوريا، مرة أخرى على جدول أعمالها جذب القوات والموارد المالية لتطوير أنشطتها الإرهابية، وبينما كانت أفغانستان ودول آسيا الوسطى تتصدر قائمة أنشطة "داعش" في السنوات الأخيرة، إلا أن هذا التنظيم الإرهابي لا يزال يمتلك نواة نشطة لتنفيذ أعمال إرهابية في مناطق مختلفة من العالم من شرق آسيا إلى أفريقيا (أساسا في نيجيريا وجنوب شرق النيجر وتشاد).
في هذه الأثناء، ورغم أن آثار تحركات "داعش" في الحدود الجنوبية للخليج الفارسي، والتي تتكون من 6 دول أعضاء في مجلس التعاون، أقل وضوحا مما كانت عليه في أماكن أخرى، إلا أن التهديدات الأمنية الناجمة عن الأنشطة المنظمة وغير المنظمة ل"داعش" وبعض الجماعات الإرهابية أحد الاهتمامات الرئيسية لتوفير الأمن القومي في هذه المنطقة.
وكانت أبرز مناطق نفوذ تنظيم "داعش" في المنطقة الأمنية للخليج الفارسي خلال السنوات الماضية هي شبه الجزيرة العربية وتحديداً أجزاء من الأراضي اليمنية مثل محافظتي أبين وشبوة، والتي نجح هذا التنظيم الإرهابي في دخولها بسبب الفراغ الأمني الناجم عن الأزمة الداخلية والغزو الأجنبي، ولهذا فقد استغلت هذه الجماعة الارهابية هذه الظروف ووجدت لنفسها موطئ قدم في هذه المناطق، إلا أن العملية الإرهابية الأخيرة التي قام بها تنظيم "داعش" في عمان، دقت ناقوس الخطر بشكل خطير حول إمكانية تكرار هذا النوع من العمليات مرة أخرى في هذه المنطقة الجغرافية.
التأكد من آثار "داعش" في حادثة عمان
في ليلة عاشوراء (25 تموز/يوليو)، تعرض موكب عزاء الحسيني (ع) في مسقط، عاصمة عُمان، لهجوم إرهابي مسلح، وخلال هذا العمل الإرهابي غير المسبوق في عمان، نشرت شرطة مسقط بيانا أعلنت فيه أن عدد الشهداء بلغ 9 أشخاص، وحسب الناجين من الهجوم الإرهابي على مسجد شيعي في عمان، فإن المهاجمين المسلحين صرخوا بهذه الكلمات "هذه نهايتكم أيها الكفار" أثناء إطلاق النار على الناس، وقال الناس أيضًا إن الإرهابيين كانوا يقفون على سطح المبنى المجاور للمسجد وكانوا يستخدمون الكشاف هناك لرؤية أهدافهم في الفناء.
وتبنى تنظيم "داعش" المسؤولية عن هذا الهجوم وأعلن أن ثلاثة من عناصر هذا التنظيم نفذوا هذا الهجوم، وجاء في بيان التنظيم: "فتح المقاتلون النار على الشيعة ثم اشتبكوا مع القوات العمانية التي وصلت إلى الموقع، واستمرت الاشتباكات حتى صباح الأربعاء"، إن تنظيم "داعش"، الذي يستهدف بشكل متكرر التجمعات والمواكب الشيعية في دول مثل باكستان والعراق وأفغانستان، وصف الشيعة في دعاياته بأنهم كفار وشدد على عدائه للشيعة من أجل تجنيد أنصار الأفكار التكفيرية.
وحقيقة أن الإرهابيين كانوا يطلقون النار من مسافة بعيدة في هجوم مسقط تشير إلى أن مرتكبي هذه الجرائم لم يكونوا انتحاريين وكانوا يحاولون إيقاع المزيد من الضحايا، رغم أنهم لم يحققوا نجاحاً كبيراً في هذا الهدف، ورغم أن بعض التكهنات أشارت في البداية إلى أن الإرهابيين قد يكونون مواطنين باكستانيين، إلا أن عمران علي، سفير باكستان لدى عمان، أكد أن لديه معلومات موثوقة بأن المهاجمين ليسوا باكستانيين.
وحسب بيان الشرطة العمانية، فإن المسلحين الثلاثة في هذه الحادثة هم أشقاء عمانيون وتم قتلهم جميعا على يد القوات الأمنية، وحسب التحقيق فإنهم متأثرون بأفكار مضللة، ويتوافق بيان الشرطة أيضًا مع كلام بخاري، أحد شهود العيان والناجين من هذا الهجوم الإرهابي وهو من باكستان ويرأس فريقاً من المتطوعين في المساجد ويعمل لدى شركة إعلانية في مسقط، حيث قال لصحيفة "ناشيونال" الإماراتية: إن القناص الذي أطلق النار عليهم كان يتحدث بصوت عالٍ باللغة العربية بطلاقة وليس شخصا يتحدث العربية بصعوبة.
زعزعة استقرار عمان المستقرة
تم تنفيذ هجوم "داعش" على مراسم عزاء الشيعة في عمان بينما كانت هذه المشيخة في الخليج الفارسي تعتبر دائمًا دولة مستقرة وآمنة في المنطقة، إن اختراق قلب عمان أمر لافت للنظر من وجهة نظر أن تنظيم "داعش" يحاول التلميح إلى أن لديه القدرة على اختراق حتى أكثر الدول أمانا في المنطقة.
واعتبر معن البياري رئيس تحرير صحيفة "العربي الجديد" في مقال له بعنوان "داعش في مسقط" وقوع هذه الحادثة بمثابة إنذار مقلق للغاية، لأنه من الواضح أنها حدثت في سلطنة عمان في البلد الذي يصلي فيه أتباع المذهب الأباضي والسنة في نفس المساجد ولم ترد أنباء عن أي نوع من التوتر أو الصراع الطائفي فيه، كما يرى البياري أن "هذه الحادثة تدفعنا إلى إعادة النظر في الأخبار التي يتم ترويجها حول إضعاف هذه الجماعة الإرهابية".
وقال آرون زيلين، الخبير البارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في مقابلة مع شبكة "المونيتور": "من بين سكان عمان البالغ عددهم 5 ملايين نسمة، هناك حوالي 45% من السنة، و45% من الاباضية، ونحو 5% شيعة، وهذا التوازن السكاني هو أحد الأسباب وراء عدم نشاط "داعش" في هذا البلد، لأنه مع العدد الكبير من سكان المذهب الاباضي، هناك عدد أقل من الأشخاص الذين يمكن للمتطرفين جذبهم".
والاباضية هي أحد المذاهب الإسلامية التي نشأت من حركة الخوارج، وهذه الطائفة من أقدم الطوائف الإسلامية والطائفة الوحيدة المتبقية من الخوارج، واسم هذه المدرسة مأخوذ من اسم عبد الله بن عباد التميمي قائدها الأول، والاباضية منفصلة عن السنة والشيعة على حد سواء، ورغم أنها تعتبر جماعة صغيرة من حيث عدد أتباعها مقارنة بالسنة والشيعة، إلا أنها تاريخيا حركة مهمة للغاية، واليوم، يعيش الاباضيون في الغالب في شمال وشرق أفريقيا وعمان، وعُمان هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تعتبر الديانة الأباضية هي ديانة الأغلبية، كما أن سلطانها يعتنق هذه الديانة أيضاً.
صراع "داعش" من أجل البقاء
ومن خلال هذا العمل الإرهابي الذي تم تنفيذه لأول مرة في قلب عمان، يحاول تنظيم "داعش" إظهار أنه على الرغم من فقدان قوته الرئيسية في العراق وسوريا، إلا أنه لا يزال على قيد الحياة ولديه القدرة على مهاجمة مناطق مختلفة، إن الهجوم على المسجد الشيعي في مسقط هو استمرار لهجمات "داعش" ضد الشيعة، وهذه الجماعة الإرهابية تعمل على توسيع نطاق عملياتها تدريجياً، لأنها بعد تنفيذ هجمات في أفغانستان وباكستان، قامت بتنفيذ هجمات في إيران وروسيا، والآن يتزايد هذا التهديد في منطقة الخليج الفارسي أيضًا.
وعلى سياق متصل، قال كوجينز، العقيد المتقاعد بالجيش الذي عمل كمتحدث باسم الجيش الذي تقوده الولايات المتحدة، لشبكة ABC News: “يحتاج داعش إلى مواصلة هذه الأنواع من الهجمات ليُظهر لأتباعه أنه ملتزم برؤيته المروعة المتمثلة في إنشاء دولة الخلافة على المدى الطويل".
لقد تم تنفيذ هجوم "داعش" غير المسبوق على عمان في وقت كانت فيه هذه الدولة أحد المدافعين الرئيسيين عن الشعب الفلسطيني في خضم حرب غزة، واتخذ القادة السياسيون والدينيون في مسقط مواقف قوية ضد الكيان الصهيوني، وكان أحد هؤلاء الأشخاص هو أحمد الخليلي، مفتي عمان، الذي دعم شعب غزة أكثر من الزعماء الدينيين الناطقين بالعربية ودعا مرارا وتكرارا إلى وحدة العالم الإسلامي ضد الكيان الصهيوني وفرض عقوبات اقتصادية ضد هذا الكيان، وطالب الخليفي بإرسال أسلحة للمقاتلين الفلسطينيين حتى يتمكنوا من تحرير أرضهم من أيدي المحتلين، لذلك هناك احتمال أن يكون تسلل إرهابيي "داعش" إلى عمان هو جزء من المشروع الصهيوني للاعتداء على أمن عمان. .
عدم فعالية الاتفاقيات الأمنية لمجلس التعاون
إذا كان عناصر "داعش" قد تسللوا إلى عمان، فليس من المستبعد أن يأتي دور قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لتذوق الطعم المر للإرهاب في القريب العاجل، وعلى الرغم من أن الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج الفارسي تنفق مليارات الدولارات سنويا على مسألة الأمن ولديها آليات أمنية مختلفة في إطار هذا المجلس، إلا أن عدم فعالية هذه الآليات ثبت في المواقف الصعبة.
وبالإضافة إلى تشكيل قوة "درع الجزيرة"، وهي الذراع العسكرية لمجلس التعاون، شكل مشايخ العرب قوة شرطة مشتركة أطلقوا عليها اسم "شرطة التعاون الخليجي"، وهي قوة تشبه الشرطة الدولية (الإنتربول) لكنهم يتصرفون ضمن حدود الدول الأعضاء في هذا المجلس، ومن المفترض أن تعمل قوة الشرطة هذه على تحسين تعاون الدول العربية في الخليج الفارسي ضد الإرهاب، وكذلك التعامل مع تهريب المخدرات وغسل الأموال والجرائم الإلكترونية، وعلى الرغم من هذه القوات المناهضة للإرهاب والاتفاقيات الأمنية، إلا أن هذه الامور كلها لم تكن فعالة في التعامل مع التهديدات المحتملة، وغير قادرة حتى على الحصول على معلومات تظهر احتمال وجود تهديدات إرهابية، ولذلك، فإن إعادة النظر في التحالفات الأمنية هي مسألة يجب على دول الخليج الفارسي الاهتمام بها عاجلاً أم آجلاً.
لقد اكتسبت إيران، باعتبارها الجار الأكثر أهمية في المنطقة الجغرافية للخليج الفارسي مع الدول الأعضاء في مجلس التعاون، الكثير من الخبرة في التعامل مع الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق في العقد الماضي، وهو ما يمكن أن يساعد بشكل كبير في تحييد هذه التهديدات في دول المنطقة، إن اختفاء الخطر الكبير المتمثل في قيام دولة الخلافة المزعومة ل"داعش" من المنطقة كان بفضل مساعدة إيران وجهود قائد الإسلام النبيل الحاج قاسم سليماني والقوات الأخرى المدافعة في جبهة المقاومة، الذين بحكمتهم لم يسمحوا للإرهابيين بإحداث الفوضى في المنطقة، لقد أثبتت إيران أيضًا دورها في خلق الاستقرار في المنطقة واستعدادها للعمل كشريك أمني موثوق للدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي من خلال المساعدة في رفع الحصار عن قطر خلال أزمة 2019 في مجلس التعاون الخليجي.
إن أمن واستقرار الخليج الفارسي يصب في مصلحة جميع دول المنطقة، وبالتالي فهو البديل الأول والأكثر اختبارا لسد الثغرات الأمنية للدول الأعضاء في مجلس التعاون، وخاصة في مكافحة الإرهاب وهي المسألة التي شدد عليها الطرفان في المحادثة الهاتفية بين القائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني ونظيره العماني بعد الحادث الإرهابي.