الوقت - بعد عام كامل من المجازر المستمرة ضد الأطفال والنساء والرجال في غزة، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بشكل رسمي حكمًا بالقبض على بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، ويوآف غالانت، وزير الحرب السابق، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأعلنت المحكمة في بيان على موقعها الإلكتروني، أن الحكم يتهم غالانت ونتانياهو بانتهاك قوانين النزاعات المسلحة الدولية، من خلال حرمان المدنيين في غزة عمدًا من "الغذاء، والماء، والدواء، والمعدات الطبية، فضلاً عن الوقود والكهرباء"، عبر الحصار المستمر لمساعدات الإغاثة الإنسانية. كما أنهما متهمان بقيادة هجمات مقصودة ضد المدنيين في غزة في ما لا يقل عن حالتين.
قوبل هذا الحكم، وسط غضب عارم من السلطات الصهيونية والأمريكية، بترحيب واسع على الصعيد الدولي، إذ أبدت نسبة كبيرة من الدول الأوروبية التزامها الصريح بتنفيذ أحكام المحكمة.
حيث أعلنت كل من إيطاليا، وإيرلندا، وبلجيكا، وهولندا، وفرنسا احترامها للقرار، وأكدت أنه في حال سفر نتانياهو إلى أراضيها، فإنه من المحتمل أن يتم اعتقاله. في المقابل، كانت هنغاريا من بين الدول القليلة التي عبرت بوضوح عن معارضتها لحكم المحكمة الجنائية الدولية. حيث صرح فيكتور أوربان، رئيس وزراء الحكومة اليمينية في هنغاريا، أنه ليس فقط سيمتنع عن الامتثال لقرارات المحكمة، بل سيقوم أيضاً بدعوة نتنياهو لزيارة بودابست.
ومع ذلك، يبرز الآن سؤالٌ جوهري: ما التأثير الذي يمكن أن يحدثه صدور هذا الحكم على المطالبات الشعبية العالمية لوقف الحرب والمجازر ضد المدنيين في غزة ولبنان، وكذلك لتحقيق العدالة في مواجهة قادة الکيان الصهيوني ومؤيديه الرئيسيين، خاصةً المسؤولين في البيت الأبيض؟ وما هي الضمانات التنفيذية المتاحة لهذا الحكم؟ وفي حال عدم استجابة بعض الدول لتنفيذه، ما العواقب المحتملة التي قد تواجهها تلك البلدان؟
التداعيات السياسية والقانونية
في بداية الأمر، يتعين علينا أن ننبّه إلى أن الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية، رغم انفصاله عن القضية التي رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا ضد الکيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية بتاريخ 29 ديسمبر من العام الماضي، والتي أثمرت عن إصدار حكم يدين تل أبيب، إلا أن فتح هذه القضية وانضمام العديد من الدول إلى هذه الحملة القانونية، قد أسهم بشكل كبير في تعزيز المسار القانوني الموازي في إطار المحكمة الجنائية الدولية.
حالياً، يضم المجتمع الدولي 124 دولة قد وقعت على نظام المحكمة الجنائية الدولية، وفي ظل القوانين المنظمة لهذه الهيئة، فإنها ملزمة، في حال سفر كل من نتانياهو وغالانت إلى أراضيها، باتخاذ إجراءات الاعتقال ضدهما بصفتهم مجرمي حرب.
في المقابل، فإن الکيان الصهيوني، الذي يمتلك تاريخًا طويلًا من الفظائع والجرائم ضد الشعب الفلسطيني على مدى سبعة عقود، لا يُعدّ من الموقّعين على نظام المحكمة الجنائية الدولية، كما أنه لا يعترف باختصاصها القضائي في أراضيه. لذا، أعلنت قيادات هذا الکيان أن المحكمة الجنائية الدولية لا تملك أي قاعدة قانونية لاستصدار حكم ضد الإسرائيليين.
ومع ذلك، فقد قوبل هذا الاعتراض، مثلما حدث مع حكم محكمة العدل الدولية، بالرفض من قبل المحكمة الجنائية الدولية، حيث أن دولة فلسطين قد أصبحت عضوًا رسميًا في هذه الهيئة منذ عام 2015. ومن ثم، فإن الجرائم المرتكبة من قبل أي فرد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة، تقع ضمن نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
تُظهر الولايات المتحدة أيضًا، بصفتها الحليف والداعم الرئيس للکيان الصهيوني، تحيزها الواضح تجاه الجرائم المستمرة التي يرتكبها هذا الکيان ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، حيث إنها لم تكن من الموقّعين على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما أنها في السابق قد فرضت عقوبات على المسؤولين في المحكمة الدولية، الذين قاموا بمحاولات للتحقيق في الجرائم الحربية المنسوبة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وللقوات العسكرية في أفغانستان.
وهذا يدل على أنه من غير المرجح أن تمارس الحكومة الأمريكية أي ضغط على قيادات الکيان الصهيوني للتعاون مع أحكام المحكمة، بل على العكس شهدنا في اليومين الماضيين بعض أعضاء مجلس الشيوخ والمسؤولين الأمريكيين، وهم يتوجهون بالتهديدات تجاه قضاة المحكمة والدول التي أعلنت تأييدها لأحكامها.
تفتقر المحكمة إلى قوة الشرطة الخاصة بها، وتعتمد بالتالي على التزام الدول الموقّعة علی أحكامها في تنفيذ عمليات القبض على المحكومين بجرائم ضد الإنسانية. وفي العادة، لا تقوم الدول باعتقال أي شخص خارج حدودها بناءً على أوامر من المحكمة الجنائية الدولية، مما يعني أن المسار الأكثر احتماليةً لاعتقال نتانياهو وغالانت، هو من قِبَل دولة يزورانها.
ومع ذلك، إذا أخفقت أي من الدول الأعضاء في الوفاء بالتزاماتها بموجب أحكام هذه المحكمة، فإن الخيار المتبقي هو اللجوء إلى مجلس الأمن، الذي يملك القدرة على التصويت على قرار بناءً على ميثاق الأمم المتحدة. وفي هذه الحالة، سيكون من المؤكد أن الولايات المتحدة، كما فعلت سابقًا، ستستخدم حق النقض (الفيتو) لإغلاق كافة السبل نحو إصدار قرارات ضد قادة الجرائم الصهيونية.
وعلى الرغم من ذلك، من المحتم أن تكون حرية حركة نتانياهو وتنقلاته الدبلوماسية أكثر تقييدًا مما كانت عليه سابقًا، ولزامًا عليه قبل القيام بأي سفر أن يجري مشاورات واسعة للحصول على رؤية واضحة عن موقف الدولة المضيفة تجاه حكم المحكمة الجنائية الدولية.
من جهة أخرى، سيلمس بقية القادة السياسيين والعسكريين لکيان الاحتلال، مثل سيموترتش وبن غفير وغانتس، آثار التهديد المُحتمل بإصدار حكم مماثل، مما سيعزز الضغوط الدولية على الاستراتيجيات العسكرية للصهاينة وأفعالهم المتواصلة في سياق العدوان، لا سيما في جنوب لبنان وشمال غزة، اللتين تعانيان الآن من حصار كامل.
كما أنه يُتوقع أن يواجه حلفاء الکيان الصهيوني، سواء في الغرب أو آسيا، الذين يشكّلون أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ضغوطًا داخليةً تدعو إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع نتنياهو. وفي هذا السياق، بالإضافة إلى القيود المفروضة على سفر نتنياهو إلى دول أخرى، قد يمتنع قادة هذه الدول عن زيارة الأراضي المحتلة أو اللقاء مع مجرم الحرب، مما سيؤثر بالتأكيد على سجلهم الدبلوماسي.
علاوةً على ذلك، قد يؤثر هذا الحكم الذي صدر ضد نتنياهو وغالانت، وبالاستناد إلى القوانين التي تحظر نقل الأسلحة إلى مرتكبي الجرائم الحربية وجرائم ضد الإنسانية، على مسار نقل العتاد العسكري من الدول الأوروبية إلى الأراضي المحتلة. فقد أقرت محكمة هولندية سابقاً بعدم إمكانية إرسال قطع غيار لطائرات مقاتلة إلى "إسرائيل". هذا بالإضافة إلى ما حدث من إلغاء أو انتهاء لعقود تسليح في بريطانيا، نتيجةً للتوجهات المرتبطة بتفاعل المحكمة الجنائية الدولية.
لمن تصدر المحكمة الجنائية الدولية أوامر الاعتقال؟
تأسست المحكمة الجنائية الدولية رسميًا في عام 2002 بموجب نظام روما (1998)، والذي يُعتبر معاهدةً تهدف إلى إنشاء محكمة ذات صلاحيات واسعة للتحقيق ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب على مستوى العالم.
تتولى إدارة المحكمة هيئة مكونة من ثلاثة قضاة، تتألف من رئيس وقاضيين معاونين، ينتخبون من بين 18 قاضيًا يُمثلون هذه المؤسسة، وذلك لفترة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. حتى الآن، تم تقديم 32 قضية أمام المحكمة، حيث أصدرت الهيئة القضائية 11 حكمًا بالإدانة و4 أحكام بالبراءة.
علاوةً على ذلك، أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية 59 أمر اعتقال، حيث مثُل 21 منهم أمام المحكمة، وتم سجنهم في مرافق الاحتجاز التابعة للمحكمة. وما يزال 30 شخصًا في حالة حرية، بينما توفي 7 من المتهمين.
ومع ذلك، حتى إذا لم تُنفذ الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت، فإن اسميهما سيبقيان مسجلين إلى الأبد ضمن قائمة مجرمي الحرب ومرتكبي الإبادة الجماعية في سجل التاريخ.