الوقت- بينما يسعى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني يائساً إلى إنقاذ نفسه من مستنقع الأزمات الداخلية من خلال الدفع بمشروع التطبيع مع الدول العربية، إلا أن محاولته الأخيرة لخلق تحالفات جديدة في العالم العربي لم تحل أي مشكلة له فقط، بل أصبحت عبئاً عليه أيضا.
نشرت وسائل الإعلام، يوم الأحد، خبرا يظهر أن وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين ووزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش عقدا اجتماعا سريا في العاصمة الإيطالية روما، ورغم أن تفاصيل هذا اللقاء لا تزال مخفية، إلا أن نشر هذا الخبر جعل الأجواء السياسية في ليبيا والأراضي المحتلة متوترة للغاية واندلعت موجة استنكار لهذه القضية.
وفي ليبيا، حيث لم يكن الشعب والسياسيون يتوقعون مثل هذا الحدث، أصبحت الأجواء معادية للصهيونية بقوة، وأعلنت مجموعات وشخصيات ليبية والشعب الليبي مساء الأحد، ردا على الكشف عن هذا الخبر، مرة أخرى معارضتها لإقامة أي علاقات مع كيان الاحتلال.
وحاول عبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية الليبية، الذي كان هدفاً للمعارضة الشعبية والسياسية، تبرير هذه القضية وإنقاذ نفسه من الخطر باستنكار الحدث، ثم سارعت وزارة الخارجية الليبية إلى رفض ما تردد عن أن هذا الاجتماع كان رسميا، وأعلنت في بيان لها أن هذا الاجتماع غير الرسمي لم يكن مخططا له مسبقا ولم يتضمن أي نقاش أو اتفاق أو تشاور، وأكد البيان تمسك ليبيا الواضح الذي لا لبس فيه بالتركيز على القضية الفلسطينية.
كما أوقف الدبيبة المنقوش عن منصبها وأحالها إلى الجهات الإشرافية المختصة للتحقيق معها، ورغم أن جهاز الأمن الداخلي الليبي منع المنقوش من السفر لحين إجراء التحقيقات، إلا أن التقارير تشير إلى هروبها لتركيا ومنها إلى لندن، ومن غير المرجح أن تعود إلى البلاد.
كما طلب المجلس الرئاسي من الدبيبة تقديم توضيحات حول مضمون هذا اللقاء، وأدان البرلمان الليبي، الذي يقع مقره شرقا، لقاء المنقوش مع كوهين وطالب بتشديد العقوبة عليها، قائلا إن القرار الذي اتخذ قبل عامين بسحب الثقة من حكومة عبد الحميد الدبيبة كان القرار الصحيح، لأنه لا يمثل الشعب الليبي.
لكن كلما دقت الحكومة الليبية طبول الإنكار، أصر الصهاينة على أن الأمر خلف الستار أخطر من الكلمات.
وفي هذا الصدد، نقلت شبكة "كان" الصهيونية عن مسؤول في هذا الكيان قوله: "إن الحكومة الليبية أرادت الحصول على الشرعية من أمريكا والغرب عبر النفوذ الإسرائيلي، حتى يستمروا في دعم رئاسة الدبيبة للوزراء"، فيما من المقرر، حسب الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين الفرقاء الليبيين في الأشهر الماضية، إجراء انتخابات مبكرة، وليس أمام الدبيبة فرصة للبقاء في السلطة.
كما اعتبر المجلس الأعلى للحكومة الليبية اللقاء بين المنقوش وكوهين انتهاكا لقوانين عقوبات العدو الصهيوني وإهانة لتاريخ نضال الشعب الليبي نصرا للقضية الفلسطينية، وقال إن الشعب الليبي سيدافع دائما عن الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
غضب الشعب الليبي من خيانة الحكومة
وإضافة إلى السياسيين، فإن الشعب الليبي غاضب أيضًا بشدة من الاجتماع السري لوزير الخارجية مع السلطات الصهيونية ونظم احتجاجات حاشدة لإدانة هذا العمل.
وندد آلاف الأشخاص، الاثنين، بتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" في شوارع طرابلس، وامتد نطاق التظاهرات إلى مدن أخرى، ولوح المتظاهرون بالعلم الفلسطيني، وأغلقوا الطرق وأحرقوا الإطارات.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، متظاهرين ليبيين يحرقون العلم الإسرائيلي ويحاولون الدخول من بوابات المبنى الحكومي في طرابلس، كما ردد المتظاهرون شعارات مناهضة للصهيونية وطالبوا بإقالة الحكومة.
وتشهد سياسة ليبيا الخارجية فوضى بسبب سنوات من الصراعات والخلافات الداخلية بين مختلف الجماعات، ولا توجد حتى الآن حكومة مستقرة في هذا البلد، وفي مثل هذا الوضع تسعى سلطات طرابلس إلى تطبيع العلاقات مع المحتلين الذين أصبحوا أكثر كرهًا، أكثر من ذي قبل في الرأي العام في العالم العربي.
توتر في حكومة نتنياهو
ورغم أن الكيان الصهيوني يتبع سياسة إبقاء اجتماعات مسؤوليه سرية مع الدول العربية التي لا تربطه بها أي علاقات دبلوماسية رسمية، إلا أنه هذه المرة وعلى غير العادة، نشر بيانا حول اللقاء بين المنقوش وكوهين، وأثارت هذه القضية موجة من الانتقادات، وهو ما فعلته الحكومة.
وحسب وسائل إعلام عبرية، فإن فريق الموساد غير الواضح، الذي عمل على الملف الليبي لسنوات، تلقى ضربة كبيرة بعد الكشف عن اللقاء بين كوهين والمنقوش، وهناك جدل حول حجم هذا الضرر ولا أحد يعرف حتى الآن كيف سيكون المستقبل.
ووصف إيلي كوهين، الذي أبدى حماسته لهذا اللقاء السري، بأنه "تاريخي" لتخفيف أعباء المعارضة، واعتبره الخطوة الأولى في التواصل بين "إسرائيل" وليبيا، وقال كوهين: "تحدثت مع وزيرة الخارجية الليبية حول الإمكانية الكبيرة لتعزيز العلاقة بين الجانبين، وكذلك أهمية الحفاظ على التراث اليهودي الليبي، بما في ذلك ترميم المعابد والمقابر اليهودية في هذا البلد".
وشدد كوهين على أنه "من العار أن المنافسين السياسيين الذين لم يحققوا أي إنجازات مهمة، يسارعون إلى الإدلاء بتعليقات دون معرفة التفاصيل ويتهمونني بالكشف عن هذا اللقاء".
إن حجم ليبيا وموقعها الاستراتيجي يوفر فرصة كبيرة لـ"إسرائيل"، كما تتمتع هذه الدولة بتراث يهودي غني، ويحاول الصهاينة تعزيز علاقاتهم مع هذه الدولة الواقعة في شمال إفريقيا والسيطرة الكاملة على البحر الأبيض المتوسط.
في غضون ذلك، انتقد معارضو نتنياهو، الذين يستغلون كل فرصة لمهاجمة حكومته، فور الكشف عن هذه الأخبار، المتشددين الذين قوضوا بهذا الإجراء غير المدروس إنجازات الحكومة على المدى الطويل في كواليس المفاوضات مع قادة ليبيا.
وقال يائير لابيد رئيس الوزراء السابق وبيني غانتس وزير الحرب الصهيوني السابق وأحد زعماء المعارضة، إن نشر كوهين لهذا الخبر يضر بما يسمونه علاقات تل أبيب السرية مع ليبيا ودول أخرى.
كما أعلنت صحيفة يديعوت أحرونوت أن تداعيات الأزمة المترتبة على الكشف عن اللقاء السري بين كوهين والمنقوش ستجعل حوار "إسرائيل" مع العالم العربي صعبا ويمكن أن يدمر مسار التطبيع.
قلق أمريكا ودور إيطاليا كوسيط
وإلى جانب الصهاينة، فإن دور التطبيع مع ليبيا أثار أيضا غضب حكومة جو بايدن الذي يسعى جاهداً لتحقيق إنجاز في مجال تطبيع العلاقات بين العرب والكيان الصهيوني قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل ونيل دعم اللوبي الصهيوني، ولكنه يرى الآن أن الفرصة مفقودة.
وقال مسؤولون أمريكيون إن إدارة الرئيس جو بايدن تشعر بالقلق من أن الكشف عن الاجتماع، وأن الاضطراب الذي أعقبه لن يؤدي فقط إلى عرقلة الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" وليبيا، بل يقوض أيضًا الجهود الجارية مع الدول العربية الأخرى ويضر بالمصالح الأمنية للولايات المتحدة، وشددوا على أن بدء المظاهرات من شأنه أن يزعزع استقرار الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
لكن رغم قلق أمريكا من الكشف عن هذا اللقاء السري، إلا أن هناك تكهنات أيضاً بأن البيت الأبيض ربما لعب دوراً في تسريب أخبار هذا اللقاء، وكانت حكومة بايدن، التي تعتبر وجود متطرفين على رأس حكومة تل أبيب عائقا أمام تطبيع العلاقات مع السعودية، قد شهدت علاقات باردة نسبيا مع تل أبيب في الأشهر الأخيرة من خلال انتقاد سياسات نتنياهو، وخاصة فيما يتعلق بالإصلاحات القضائية.
وبناء على ذلك فإن حجة هذه المجموعة من المحللين هي أن الكشف عن اللقاء مع وزير الخارجية الليبي سيشكل ضغوطا على نتنياهو وأصدقائه ويمهد الطريق لانهيار حكومة نتنياهو من خلال زيادة موجة المعارضة في ليبيا للصهاينة.
ورغم أن لقاءات التطبيع في الماضي بين مسؤولي تل أبيب والعرب كانت تتم بوساطة الولايات المتحدة، إلا أن اللقاء هذه المرة بين كوهين والمنقوش، وخلافاً للتقليد القديم، تم بوساطة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، وهو ما يوضح أن روما تسعى أيضًا إلى تحقيق مكاسب من خلال تطبيع العلاقات.
وبما أن ليبيا مرتبطة بالأراضي المحتلة عن طريق مصر، ففي حالة تطبيع العلاقات سيتم نقل البضائع الصهيونية إلى أوروبا بسهولة، وبعد الحرب في أوكرانيا، يحتاج الأوروبيون إلى النفط والغاز من الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى، وفي الصيف الماضي تم توقيع اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي ومصر والكيان الصهيوني لنقل الغاز من الأراضي المحتلة إلى أوروبا عبر مصر. ولكن إذا تم العمل على تحسين علاقة ليبيا مع "إسرائيل"، سيتم في البداية نقل هذه الموارد بتكلفة ووقت أقل، ويقال إن خفر السواحل الإيطالي أنقذ مؤخرا قارب عملاء الموساد الذي تعرض لحادث في مياه البحر الأبيض المتوسط، وذلك لإظهار عمق الجهود المبذولة لدعم الصهاينة.
وفي حين أن نتنياهو مصمم على تطبيع العلاقات مع دول مثل ليبيا، فقد أظهرت التجارب السابقة أن تل أبيب لم تتمكن من إقامة علاقات ودية مع الدول العربية التي لا تظهر عليها أي بوادر للديمقراطية، الدول الملكية مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة، حيث لا توجد انتخابات حرة أو ديمقراطية وحيث تحكم أقلية استبدادية البلاد، هي التي تحركت نحو التسوية مع الكيان الصهيوني.
المغرب، الذي عانى من وصمة التسوية أكثر من غيره، يحكمه هيكل ملكي والبرلمان شرفي في هذا البلد، السودان، الذي يتعرض لضغوط لا هوادة فيها من أمريكا في عملية التطبيع، يقع تحت سيطرة مدبري الانقلاب ويحكم من غير حكومة شعبية.
وفي الواقع، في أي مكان في العالم العربي يلعب فيه رأي الناس دورًا في تحديد الحكام والسياسة للحكومة، تم فيه إغلاق باب التطبيع، مثل مصر، التي كانت أول دولة عربية قامت بتطبيع علاقاتها مع الصهاينة باتفاقية كامب ديفيد، فبعد ثورة 2011 وتنصيب حكومة محمد مرسي، اعتمد الأخوان سياسة النأي بأنفسهم عن الصهاينة، ولم تعد البوصلة المصرية إلى تل أبيب مرة أخرى إلا بعد انقلاب الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي.
ولذلك فإن آمال الصهاينة في تطبيع العلاقات مع الحكومة الليبية ذهبت أدراج الرياح، ومع موجة المعارضة التي تشكلت في الأيام الأخيرة، أصبحت أحلام إقامة سفارة في ليبيا حلماً لنتنياهو حتى المستقبل المجهول.