الوقت- في ظل ما شهدته المقاطعة من زخمٍ واسعٍ ليس في الدول العربية والإسلامية فحسب، وإنما في مختلف أنحاء العالم مع تزايد الوعي بالقضية الفلسطينية، وارتفاع الغضب الشعبي العالمي تجاه ازدواجية معايير الحكومات الكثيرة التي منحت غطاء متبجِّحا وغير مسبوق للجرائم الإسرائيلية.
أفاد موقع "غلوبس" الإسرائيلي بأن "إسرائيل" جاءت في المرتبة الأخيرة ضمن مؤشر العلامات التجارية الوطنية، وسط رفض واسع من الجيل "Z" ومقاطعة فعلية للمنتجات الإسرائيلية.
وأوضح التقرير أن الاستطلاع، الذي أُجري بين يوليو وأغسطس 2024، شمل 40 ألف شخص من 20 دولة، حيث شمل المؤشر تصنيف 50 دولة استنادًا إلى ستة معايير رئيسية، هي: السياسة والحوكمة، والثقافة، والمجتمع، والصادرات، والهجرة والاستثمار، والسياحة.
وبيّنت الدراسة أن الجيل "Z" يرفض "إسرائيل" بشكل كبير، ما جعلها تحصل على أدنى التقييمات في جميع الجوانب، كما أشار التقرير إلى وجود مقاطعة فعلية للمنتجات الإسرائيلية، ما يشكل تهديدًا للصادرات، مع نفور المستهلكين من المنتجات التي تحمل علامة "صنع في إسرائيل".
وأضاف التقرير إن "إسرائيل" تُعتبر عاملاً في حالة عدم الاستقرار العالمي، حيث يُنظر إليها كجزء من القوى التي تساهم في الفوضى بدلاً من تعزيز الاستقرار.
وفي هذا السياق، صرّح موتي شيرف، مؤسس "Brands Israel" المعنية بالترويج للعلامة التجارية الإسرائيلية، بأن صورة "إسرائيل" تدهورت بشكل خطير منذ اندلاع الحرب، ما أدى إلى فقدانها شرعيتها على الساحة الدولية، وأكد على ضرورة الاعتراف بفشل الدبلوماسية العامة التقليدية، وضرورة تبني استراتيجيات جديدة لإعادة بناء صورتها عالميًا.
يذكر أن عزلة تحيط بـ"إسرائيل" ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تزايدت بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتَيْ اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت، وبموجب قرار المحكمة التي لا تملك قوة فعلية لتنفيذه، أصبحت الدول الأعضاء فيها ملزمة قانونا بتنفيذ الأمر الصادر باعتقال نتنياهو وغالانت إذا دخلا أراضيها، وذلك بتهم تتعلق بـ"ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" خلال حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، وتسليمهما إلى الجنائية الدولية لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهما.
قوة هزيلة
تواجه "إسرائيل" أزمة غير مسبوقة في صورتها العالمية، رغم المؤشرات الاقتصادية المرتفعة التي تتمتع بها، فقد كشف تقرير العلامات التجارية مدى التراجع الحاد في صورتها الذهنية عالميًا، وخصوصًا بين جيل "زد" (Gen Z) الذي أبدى رفضًا ساحقًا لها في جميع المعايير الستة التي يقيسها المؤشر، الأمر الذي أثبت أن الاقتصاد القوي لم يتمكن من أن يمنع الصورة السلبية.
على الرغم من أن "إسرائيل" تتمتع بنصيب فرد من الناتج المحلي الإجمالي يفوق بـ80% الدول التي جاءت معها في نفس التصنيف المنخفض، ويصل متوسط العمر المتوقع فيها إلى 83 عامًا مقارنة بمتوسط 72 عامًا في الدول الأخرى، إلا أن هذه العوامل الاقتصادية لم تمنع التراجع الحاد في صورتها العالمية.
التقرير وصف "إسرائيل" بأنها "حالة استثنائية"، حيث تمتلك مؤشرات اقتصادية واجتماعية مرتفعة مقارنة بالدول التي حصلت على تصنيفات منخفضة مماثلة، ومع ذلك، لم يُترجم هذا إلى صورة إيجابية على الساحة الدولية، فجيل "زد"، الذي يعد من أكثر الفئات المؤثرة في الاقتصاد العالمي، منح "إسرائيل" أسوأ التصنيفات في جميع المعايير، ما يشير إلى انهيار صورتها أمام الأجيال الشابة التي تقود مستقبل الاستهلاك العالمي.
أداة فعالة
من بين أبرز ما كشفه التقرير هو وجود مقاطعة فعلية للمنتجات الإسرائيلية، حيث تتعرض الصادرات الإسرائيلية لخطر كبير بسبب الرفض المتزايد للبضائع التي تحمل علامة "صنع في إسرائيل"، وتعد هذه الظاهرة مؤشرًا على فشل "إسرائيل" في تجاوز العزلة الاقتصادية التي تتنامى بفعل السياسات العدوانية التي تتبعها.
لطالما شكلت الصادرات الإسرائيلية، وخاصة في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والمنتجات العسكرية، مصدر قوة للاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن المقاطعة المتزايدة تعني تراجع الأسواق المتاحة لهذه المنتجات، ما سيؤدي إلى تأثير مباشر على الشركات والمصانع الإسرائيلية، ومن ثم على معدلات التوظيف والنمو الاقتصادي.
من سلاح أخلاقي إلى تهديد اقتصادي حقيقي
في السابق، كانت حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية تُعد أدوات رمزية ذات تأثير محدود، لكن مع تصاعد الوعي العالمي، وخاصة بين الشباب، تحولت هذه المقاطعة إلى تهديد اقتصادي حقيقي، لم يعد الأمر مقتصرًا على الشعارات، بل أصبحت الشركات والمستهلكون في مختلف أنحاء العالم أكثر وعيًا بتأثير قراراتهم الشرائية على دعم الاحتلال الإسرائيلي.
وباتت الشركات متعددة الجنسيات تخشى الارتباط بعلامة "صنع في إسرائيل" خوفًا من ردود فعل المستهلكين، ما يعني خسائر محتملة بمليارات الدولارات، كما أن شركات الاستثمار الكبرى بدأت تتجنب السوق الإسرائيلي لتجنب أي تداعيات سياسية أو اقتصادية غير مرغوبة.
تراجع النفوذ الإسرائيلي عالميًا
لم تقتصر تداعيات الصورة السلبية لـ"إسرائيل" على الجوانب الاقتصادية، بل امتدت إلى نفوذها السياسي أيضًا، فبحسب المسح الذي أجرته شركة "براندز إسرائيل إنكوربوريشن"، فقدت "إسرائيل" شرعيتها في المجتمع الدولي، وتم إقصاؤها إلى هامش الشؤون العالمية.
هذا التراجع في النفوذ يجعلها أكثر عزلة دبلوماسية، ويحدّ من قدرتها على التأثير في القرارات السياسية والاقتصادية الدولية، وهو ما يزيد من الضغوط الداخلية على قيادتها لإيجاد حلول جديدة لمواجهة هذا التحدي.
هل تنجح حكومة نتنياهو في تحسين صورتها؟
يدرك صناع القرار في "إسرائيل" أن تحسين صورتها العالمية يتطلب أكثر من مجرد حملات دعائية، فوفقًا لموتي شيرف، مؤسس "براندز إسرائيل"، حان الوقت للاعتراف بفشل الدبلوماسية التقليدية، وضرورة تبني نماذج جديدة لتسويق العلامة الوطنية.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن أن يتحقق هذا دون تغيير جوهري في السياسات الإسرائيلية؟ حتى الآن، يبدو أن المقاطعة العالمية، وخصوصًا مع تصاعد التأييد لها بين الأجيال الشابة، ستستمر في فرض نفسها كسلاح قوي قادر على ضرب الاقتصاد الإسرائيلي وكشف حقيقته رغم القوة الظاهرية التي يدّعيها.
للاستهلاك دور سياسي موجه
وفقًا لدراسة أجراها "برايدن كينج" من كلية "كيلوغ" للإدارة، لا تكمن فعالية المقاطعة في تأثيرها المباشر على حجم المبيعات، بل في الضرر الذي تلحقه بسمعة العلامة التجارية، فقد أظهرت النتائج أن الشركات التي تأثرت صورتها العامة كانت الأكثر تضررًا مقارنة بتلك التي عانت من تراجع في مبيعاتها.
وأكدت الدراسة أن الانخفاض في المبيعات له تأثير إحصائي محدود مقارنة بالأثر العميق الذي تتركه المقاطعة على سمعة الشركات، حيث ينظر القادة التنفيذيون إلى هذه الحملات على أنها تهديد خطير لصورتهم، أكثر من كونها مجرد تراجع في الأرباح، وذلك بسبب انعكاساتها على استثمارات المساهمين، ما قد يترتب عليه خسائر مالية كبيرة.
وأثبتت دراسة استقصائية تعود إلى عام 1991 في المملكة المتحدة، في أعقاب إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أن رجال الأعمال اعتبروا المقاطعة وسيلة أكثر تأثيرًا من حملات الضغط والدعاوى الجماعية في دفعهم لتغيير سياساتهم، كما شددت الدراسة على أهمية وضع أهداف استراتيجية طويلة الأمد، إلى جانب تحقيق مكاسب مرحلية تعزز من فاعلية المقاطعة.
وعلى صعيد آخر، لا يقتصر أثر المقاطعة على البعد الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل الوعي السياسي أيضًا، ففي العديد من دول الشرق الأوسط، حيث تواجه أشكال الاحتجاج والتعبير عن الرأي قيودًا مشددة، برزت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية منذ اندلاع العدوان الأخير كوسيلة فاعلة للتعبير عن رفض المجازر الإسرائيلية. وحتى إن لم تؤدِ المقاطعة إلى تغييرات فورية في سياسات الحكومات، فإنها تعزز الوعي الاستهلاكي كفعل سياسي هادف، يسهم في إحداث تحول ملموس على المدى البعيد.