الوقت- من جديد عاد الكيان الإسرائيلي لاستخدام قطاع الغاز، لابرام صفقات ظاهرها تجاري وباطنها صفقات تطبيع واضحة المعالم مع الدول العربية، مما يشكل تحولا نوعيا غير مسبوق بملف التطبيع ينقله من المستوى الحكومي الى المستوى الشعبي، في محاولة جديدة على مايبدو لجعل التطبيع أمر واقع على كل مواطن عربي وفي كل منزل.
هذه المرة يدور الحديث عن مصر الغنية بالغاز، اذ عقدت سلسلة مفاوضات بين مجموعة "تمار" لإنتاج الغاز الطبيعي والقاهرة لتوقيع صفقة ضخمة قيمتها 20 مليار دولار مع شركة "دولفينر" المصرية لتجارة الغاز، بهدف توريد الغاز الإسرائيلي (خمس حجم المخزون الاستراتيجي للغاز من حقل "تمار" الإسرائيلي، حوالي 60 مليار متر مكعب) لمصر لمدة طويلة تبلغ 15 عاماً، في صفقة أعادت الى الأذهان صفقة مشابهة أبرمتها تل أبيب العام الماضي مع الأردن مما تسبب بموجهة غضب عارمة في الشارع العربي.
وما يزيدُ الطينَ بِلةً أن الغاز الذي ستورده "اسرائيل" للدول العربية (مصر والاردن) هو غاز مسروق وفلسطيني بامتياز وبشهادة الامم المتحدة ايضاً، كون حقل "تمار"، الذي سيورد منه الغاز، تسيطر عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ويقع قبالة السواحل الفلسطينية المحتلة، أي ان تل ابيب تقوم بسرقة الغاز العربي وتبيعه لدول عربية، مما يحقق هدفين بان واحد تطبيع مع الاحتلال من جهة ومدفوع الأجر من القاهرة وعمان من جهة أخرى.
اتفاقية خاسرة من البعد التجاري
الاتفاقية الجديدة بين الكيان الإسرائيلي ومصر، واذا أغفلنا أهدافها السياسية ونوايا تل أبيب الواضحة باستغلال تصدير الغاز لتطبيع العلاقات مع العالم العربي، فهي أيضاً خاسرة من البعد التجاري، وتظهر مصر كدولة ضعيفة يمكن لاسرائيل فرض قوانينها التجارية، بعد الاخذ بعين الاعتبار أن مصر وقعت عام 2005 اتفاقية مع كيان الاحتلال تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي المصري، بثمن يتراوح بين 70 سنتا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية بينما يصل سعر التكلفة 2.65 دولار وهو ما عد في ذلك الوقت سعر تفضيلي ورخيص جداً، كون أسعار الغاز في أوروبا في ذلك الوقت تراوحت بين 3 دولارات ونصف إلى 11 دولارا للمليون وحدة حرارية، وهو ما أضاع على البلاد مليارات الدولارات، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية على إعفاء ضريبي من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات من عام 2005 إلى عام 200، وقد أثارت هذه الاتفاقية حملة احتجاجات كبيرة دفعت عددا كبيرا من نواب مجلس الشعب المصري إلى الاحتجاج وتقديم طلبات إحاطة باعتبار أن الصفقة مجحفة اقتصاديا بحق الشعب المصري، كما رفعت عدة دعاوى قضائية لإلغاء الاتفاقية، حيث قدرت خسارة مصر من هذه الصفقة وحدها بنحو 10 مليارات دولار بحسب لجان التحقيق، في حين قدر خبراء اقتصاديون الخسارة بنحو 45 مليار دولار.
من ناحية اخرى فقد فرضت تل أبيب أسعار قياسية على القاهرة عندما قُلبَت المعادلة، أي أصبح الكيان الإسرائيلي هو من يصدر لا من يستورد، وبحسب ما سرب من المفاوضات فان سعر الغاز الإسرائيلي المتفق على تصديره إلى مصر سيصل إلى نحو 8 دولارات للمليون وحدة حرارية، ما يشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد المصري الذي يعاني من ازمات عديدة لا مجال لذكرها هنا، وبطبيعة الحال فأن جيب المواطن المصري هي التي ستدفع التكلفة الاضافية، التي تقدر بنحو الثلثين عن مستويات الأسعار العالمية السائدة حالياً، بالأخذ بيعن الاعتبار أن أسعار الغاز الطبيعي واصلت الهبوط عالمياً مع زيادة المعروض، لتتراجع وفق العقود المبرمة خلال الأيام الأخيرة إلى دولارين و93 سنتا للمليون وحدة حرارية.
مصر ستصبح من أهم الدول المنتجة للغاز الطبيعي
ومما يزيد الصفقة التجارية غموضاً ويطرح مزيد من التساؤلات عن جدواها والفائدة المرجوة التي ستحققها القاهرة، أن شركة النفط البريطانية "BP" والتي تنتج نحو 40% من إجمالي الغاز المصري، قد أعلنت قبل أيام قليلة فقط عن اكتشاف عدد من حقول الغاز الجديدة في مصر، تمثلت بحقلي "سلامات" و"أتول"،و"القطامية الضحلة-1" في منطقة امتياز شمال دمياط البحرية بشرق دلتا النيل، مؤكدة وجود مكامن كبيرة للغاز في هذه المنطقة المصرية، كما أكدت الشركة البريطانية وجود طبقة حاملة للغاز بسماكة 37 مترا، اي أن القاهرة لاتعاني من مشكلة مستقبلية من انتاج الغاز أو خطر نضوبه، بل على العكس هي مرشحة وبقوة لتصبح أهم دولة منتجة للغاز الطبيعي وتدخل مصافي دول كبيرة معروفة في هذا المجال كروسيا وايران، وهذا ما أكده الرئيس التنفيذي لشركة "إينى" الإيطالية، كلاوديو ديسكالزى، يوم الاثنين، الذي أكد أن مصر تقود مرحلة مهمة في اكتشافات الغاز في حقول زهر ونورس وبلطيم والصحراء الغربية، مشيراً الى أن مصر ستصبح من أهم الدول التي تنج الغاز الطبيعي في المنطقة.
وبحسب الدرسات فان إجمالي إنتاج مصر من الغاز يبلغ حالياً 4.45 مليارات قدم مكعبة يومياً وسيصل إلى 5.35 مليارات قدم مكعبة في 2017-2018 وفي 2018-2019 إلى نحو 5.9 مليارات قدم مكعبة يومياً، مما فتح باب التساؤلات على مصراعيه عن أسباب قيام مصر بابرام هذه الصفقة المشبوهة؟ ولماذا مع الكيان الاسرئيلي تحديداً؟ في وقت تغص فيه سوق النفط بالعديد من الدول القادرة على تزويد مصر بما تحتاجه من المشتقات النفطية وليس الغاز فقط، وبأسعار أرخص ومن بين هذه الدول دول عربية ومسلمة أو على الاقل صديقة ومن بينها الجزائر وليبيا وروسيا؟، أسئلة كثيرة نحتاج لمعرفة أجوبتها من صناع القرار في القاهرة.