الوقت - على عكس الدورات السابقة للانتخابات الرئاسية الامريكية لم تكن القضايا الأمنية والإقتصادية محور الانتخابات وحلت محلهما القضايا الاخلاقية والسياسية وقد اهتم الناخبون بهذا الشأن وبعبارة أخرى تغيرت اهتمامات الناخب الأمريكي من المعدّات الى البرمجيات وهنا ينبغي الوقوف عند عدة نقاط رئيسية:
1- بعد عام 2001 سعى الحزب الحاكم في أمريكا الى شد انتباه المواطنين نحو القضايا والاخطار الأمنية وقال جورج بوش في برنامج متلفز ان لا أمان في أي مكان في أمريكا، وعمدت الادارة الامريكية الى سن قوانين تحد من الحريات لتهيئة الجمهور لتقبل التدخلات الامريكية في الخارج وتكاليفها ومن ثم غزت امريكا افغانستان والعراق وهددت ايران وكوريا وسوريا، وفي غضون ذلك حدثت عدة حروب أخرى اضطلعت فيها أمريكا مثل حرب تموز في لبنان وحرب الـ 22 يوما في غزة لكن في المحصلة لم تجري الرياح بما تشتهي سفن البنتاغون والسي اي ايه فبقي في النهاية الجمهور الامريكي وأمامه كم هائل من التكاليف والمصاريف بالاضافة الى الأوروبيين التابعين لأمريكا والذين خسروا اعتبارهم، ولذلك نجد ان ترامب وكلينتون لم يتحدثا في حملتهما الانتخابية عن القضايا الامنية في وقت تعاني امريكا من تدهور أمني أكبر قياسا مع عام 2001 وحتى التسعينيات والاحداث الدامية في المدن الامريكية واضحة للعيان.
2- في هذه الانتخابات لم يتحدث احد عن الاقتصاد في وقت تعاني البلاد من أزمة إقتصادية منذ عام 2008 والارقام تشير ان امريكا مديونة لبنوكها مبلغ 19 الف مليار دولار يعادل الناتج العام المحلي برمته فيما الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعتبران مسؤولين عن ذلك لان سياسات بوش خلقت الأزمة المالية في 2008 والديمقراطيين لم يحلو الأزمة طوال 8 سنوات من حكمهم والان بدأ المفكرون من الحزبين يكتبون مقالات عن ضرورة وقف التدخلات العسكرية الامريكية في الخارج وتقليص النفقات.
واذا نظرنا الى تجربة تقليص عدد القوات البريطانية في الخارج في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ونتائجها فيمكننا الاستنتاج ان ذلك اعتراف بنهاية الاقتدار في خارج الحدود، ان امريكا تتبع منذ سنوات سياسة خفض التدخلات في الخارج وعدم التدخل العسكري وشن حروب بالوكالة وذلك ليس بسبب وجود استراتيجية ذكية بل سببه الأوضاع الاقتصادية الأمريكية المتدهورة.
3- في الانتخابات التي جرت ليس فقط معارضي النظام الامريكي بل احد المرشحين الرئيسيين للانتخابات اي دونالد ترامب تحدثوا عن ظلم النظام السياسي الامريكي وعقمه وابتلائه بالأزمات وهذا الموضوع هو سبب خسارة الطرف الآخر، ان تصريحات ترامب كانت حادة الى درجة اعلن فيها جزء من الجمهوريين انهم سيصوتون لصالح الطرف الآخر وحتى الرئيس الأمريكي وصف ترامب بالمجنون والخطير، وهذا الأمر يعتبر غريبا وعجيبا!
ان معارضة النظام الامريكي كان امرا موجودا منذ سنوات لكن ان يصبح شعارا انتخابيا يجذب المقترعين فهذا شيء جديد وعجيب لأن الحزبين كانوا يقدسون هذا النظام طوال 230 عاما.
ان الهجوم المباشر والمستمر على نظام وصفه ترامب بالفاسد بالكامل وقال عنه انه ألعوبة بيد الفاسدين سوف لن ينتهي مع انتهاء الانتخابات فإمريكا أذعنت بوجود انتقاد جدي لشرعية نظامها وذلك في وقت كان المنظرين الامريكيين يتحدثون منذ الثمانينيات عن قرن أمريكي وان التاريخ سينتهي في امريكا! لكن التصريحات التي سبقت الانتخابات الامريكية أبطلت مفهوم كلام هؤلاء المنظرون وتبين ان ما كان يقوله الامريكيون طوال 20 عاما الماضية لم يكن سوى اكاذيب.
ان المناظرات والكلام الذي قيل طوال السباق الرئاسي هو بداية لمرحلة انهيار القيم الامريكية مثل "الديمقراطية الامريكية" و"الليبرالية" رغم سعي الامريكيين للملمة الجراح بعد الانتخابات، فالمؤكد ان النقاشات التي انطلقت اثناء السباق الانتخابي ستستمر في الادارة الامريكية وبين نواب الكونغرس وبين اوساط الحزبين الأمريكيين، ففي الحقيقة عندما ينتقد المرشح الرسمي لاحد الاحزاب قيم امريكا الممتدة منذ 230 عاما فهذا ايذان ببدء إنهيار النظام الامريكي.
4- ان الاوضاع الاخلاقية للطبقة الحاكمة والمجتمع الامريكي في هذه الانتخابات استوقفت الجميع فقبل انطلاق الحملات الانتخابية كان ترامب معروفا بتجاوزه للخطوط الحمراء الأخلاقية وكانت كلينتون تظن انها تستطيع ان تستغل هذه الافعال المشينة لالحاق هزيمة سهلة بترامب لكن مع بدء هجوم ترامب الاخلاقي على كلينتون وعائلتها بدأت الفضائح تتطاير وحينها تراجعت شعبية كلينتون ورغم المساعي التي بذلت في 3 أيام الأخيرة لتحسين صورتها لم تنتفع كلينتون من ذلك وسقطت.
ان الفضائح الأخلاقية كشفت حقيقة السياسة الامريكية بأفضح ما يمكن ولم يعد بمقدور أمريكا ان تنصب نفسها حكما انسانيا في الخلافات الموجودة على الساحة العالمية، ان اهتمام النائبين الامريكيين بالقضايا الاخلاقية يثبت ان المجتمع لا يعتبر نفسه مستحقا لمثل هذه الفضائح، والان نجد ان الامريكيين البيض باتوا معترضين على فضائح كلينتون اكثر من السود وذوي الاصول الإسبانية وهكذا نجد انه بعد حركة السود برئاسة لويس فرخان وحركة فقراء وول ستريت تشكلت حركة احتجاجية جديدة بين الامريكيين البيض يمكنها ان تشكل نقطة تحول سياسي واجتماعي هام في المجتمع الامريكي.