الوقت- مرة بعد مرة تصر الحكومات العربية والدول الخليجیة بشكل خاص على إلقاء طوق النجاة للکیان الاسرائيلي في كل مرة يشعر هذا الكيان بالتهديد، فبعد الدمار الذي تسببت به هذه الحكومات في كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، وتدمير الجيوش العربية واستنزافها في صراعات مع الارهاب بما يعزز التفوق العسكري الاسرائيلي في المنطقة، وتشديد الحصار على قطاع غزة المحاصر، والحملة الشعواء على المقاومة اللبنانية وحزب الله واستصدار قرار ملاحقة المقاومين وفرض العقوبات عليهم وحجب قنوات المقاومة من على الاقمار الصناعية العربية، ها هم اليوم يسارعون إلى التطبيع مع الكيان الاسرائيلي في الوقت الذي بدأ فيه هذا الكيان يفقد الكثير من أصدقائه في العالم وأوروبا نتيجة حملات المقاطعة التي طالته في كل مكان. في هذا المقال نسعى لتسليط الضوء على الحملة الدولية لمقاطعة الكيان الاسرائيلي والضرر الذي ألحقته بالعدو الاسرائيلي لدرجة اعتبارها تهديداً استراتيجياً، ونشير في المقابل إلى الخطوات التطبيعية للدول العربية وعلاقاتها المطردة مع الكيان الاسرائيلي على الصعد المختلفة السياسية والاقتصادية والأمنية.
حركة مقاطعة الكيان الاسرائيلي (بي دي اس)
لم تكن حملات المقاطعة وفرض العقوبات على الكيان الاسرائيلي مجرد حملات عابرة، بل استطاعت هذه الحملات إلحقاق الضرر بالكيان الاسرائيلي على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية لدرجة تشكيلها تهديد استراتيجي للكيان الاسرائيلي وفق تصريحات المسؤولين الاسرائيليين، دفعت اللوبي الصهيوني في أمريكا والدول الأوروبية لعقد مؤتمرات هنا وهناك للتصدي لهذه الحملات.
وقد برزت بشكل خاص حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (بي دي اس) وهي حركة عالمية تاسست في 2005 رداً على بناء جدار الفصل العنصري في القدس، وتسعى إلى كشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وفضح عنصريته، و وقف كافة أشكال التطبيع معه، وتدعو إلى مقاطعة الشركات الداعمة للکیان الإسرائيلي، معتمدة على ثلاث ركائز أساسية، هي المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والعقوبات.
وقد انضمت العديد من المؤسسات الحكومية والأهلية في العالم وخاصة في أوربا إلى حملة مقاطعة الکیان الاسرائيلي (بي دي اس)، ما أثار قلق الحكومة الإسرائيلية ودفعها إلى رصد نحو 30 مليون دولار لمواجهة الحملة دعائياً. وجنّدت إسرائيل أيضاً أجهزتها الأمنية والإعلامية، بالإضافة إلى داعميها في العالم، للتصدي للحملة التي شكلت "خطراً استراتيجياً"، واعتبرت أنها "معادية للسامية".
أما حجم الأضرار التي ألحقتها الحركة بالكيان الاسرائيلي فقد بلغت وفقا لبعض التقديرات عتبة 56 مليار دولار حتى الآن، هذا عدا عن الأضرار المترتبة على الصعد الأكاديمية والسياسية. وتشير التقارير أن الكيان الاسرائيلي يخسر سنويا ثماني مليارات دولار جراء المقاطعة وقد كشفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أن 80 مصنعاً مختصاً في إنتاج الحليب والألبان مهدد بالإغلاق النهائي بسبب قرار أوروبي يمنع استيراد منتجات المستوطنات.
وأشارت بيانات اقتصادية في عام 2014 إلى انسحاب شركات أوروبية عملاقة من بناء موانئ إسرائيلية، خوفاً من تنامي المقاطعة. وقرر مصرف "دانسكه"، أكبر المصارف الدنماركية مقاطعة مصرف "هابوعاليم" الإسرائيلي. وفي إيطاليا، حذرت الحكومة مواطنيها من الاستثمار في أي مشاريع اقتصادية أو علمية أو ثقافية إسرائيلية. وجمّدت بريطانيا وبلجيكا وإسبانيا إرسال أسلحة إلى الکیان الإسرائيلي، فيما قرر عدد كبير من مصارف وصناديق استثمار رائدة في الدنمارك والنروج وإيرلندا وهولندا، وقف التعاون مع المؤسسات المالية الإسرائيلية الناشطة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى وقف الاستثمار في الكيان الاسرائيلي. وألغت شركات ألمانية وهولندية مشاركتها في مشاريع بناء سكك حديد والتنقيب عن المياه وتنقيتها، في حين منعت رومانيا مواطنيها من العمل في بناء المستوطنات في الكيان الاسرائيلي.
وتعدت المقاطعة في بعض دول أميركا الجنوبية الناحية الاقتصادية إلى الديبلوماسية، إما بسحب سفراء في فترة معينة أو تعليق الزيارات الرسمية المتبادلة، وفي مقدم هذه الدول البرازيل والإكوادور وتشيلي والبيرو وبوليفيا. وألغت شركة حكومية أرجنتينية العام المنصرم، اتفاقاً مع شركة المياه الإسرائيلية "مكوروت" بقيمة 170 مليون دولار بداعي "سرقة إسرائيل" المياه من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأما على الصعيد الثقافي والأكاديمي، فيقام سنوياً اسبوع الفصل العنصري في 80 دولة، حيث يقوم طلبة الجامعات بتنظيم حركة مقاطعة الكيان الاسرائيلي داخل الجامعات، ومقاطعة الاستثمارات في الجامعات الأجنبية التي لها علاقة مع هذا الكيان وكذلك المؤسسات الداعمة لها، ونتيجة لهذه الحملة، انحسب ألف استاذ جامعي في اسبانيا من الجامعات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة مع اسرائيل، كما انضم ألف فنان من مختلف الدول وتحديدا فرنسا وايرلندا إلى حركة مقاطعة ضد الكيان الاسرائيلي.
تنامي التطبيع العربي مع الكيان الاسرائيلي
بينما تزداد وتيرة المقاطعة الدولية للكيان الاسرائيلي وتُحجم العديد من المؤسسات الغربية الحكومية والأهلية عن التعامل مع الكيان الاسرائيلي والشركات التابعة له، على النقيض من ذلك تسارع الحكومات العربية والخليجية منها بشكل خاص لتعزيز علاقاتها بالكيان الاسرائيلي، والتطبيع معه في الوقت الذي تزداد الانتهاكات الاسرائيلية بحق الفلسطينيين والقدس والمسجد الأقصى.
وتأتي حركة التطبيع العربية مع الکیان الاسرائيي كطوق نجاة لهذا الكيان بعد التصريحات التشاؤمية التي أدلى بها مسؤولون اسرائيليون حول مستقبل الكيان الاسرائيلي جراء موجة المقاطعة الدولية، وذلك في ظل الحديث عن صفقات سرية بمئات الملايين مع السعودية والإمارات، إضافة إلى استثمارات قطرية كبيرة في شركات اسرائيلية عالمية وعلاقات تجارية مطردة لاسرائيل مع كل من مصر والأردن الذي يستورد الغاز الاسرائيلي.
اما العلاقات السعودية الاسرائيلية فقد انتقل الغزل بين الطرفين إلى مراحل غير مسبوقة من العلنية، حيث أعلن بالأمس الجنرال السعودي المتقاعد ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية والمقرب من الحكومة السعودية في جدة "أنور عشقي" أن الملك السعودي "سلمان بن عبدالعزيز" سيكون عراب التطبيع مع اسرائيل، ويأتي هذا التصريح بعد عدد من الخطوات التطبيعية التمهيدية خلال الاسابيع الماضية كالمصافحة العلنية بين الأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق للمخابرات السعودية، والجنرال الإسرائيلي "يعقوب عميدرور"، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق.
وقد كشف محلل الشؤون العسكرية والأمنية في صحيفة معاريف، "يوسي ميلمان" الذي يُعتبر من أقرب المُقربين إلى دوائر صنع القرار في تل أبيب، وتحديدًا الاستخبارات على مختلف أذرعها، النقاب عن أن الحكومات الخليجية قد توصلت إلى اتفاقات سرية، عسكرية واستخبارية، تقدر بمئات الملايين من الدولارات، وأن الحليب والمنتجات الزراعية والمنتجات الخشبية والأجهزة الالكترونية والمعدات الحربية قد تدفقت من الکیان الإسرائيلي إلى الدول الخليجیة، حيث تتم أغلب العلاقات التجارية بين الكيان والدول الخليجیة عبر تركيا وقبرص، وأشار "ميلمان" إلى أن العلاقات الاسرائيلية العربية لم تكن جيدة كما هي اليوم، كما وصف العلاقات مع مصر بشهر العسل. وكشف "ميلمان" إلى أن البنوك في الدول الخليجیة فحصت إمكانية الاستثمار بالأسهم الإسرائيلية في بورصة تل أبيب.
في ظل هذه الظروف، يحق للشعوب العربية أن تتأسف من أعماق قلبها وهي ترى العدو الاسرائيلي يحسب حساباً لحملات المقاطعة الغربية ويصفها بالتهديد الاستراتيجي، ويقيم المؤتمرات الدولية لمواجهتها، ويضعها على رأس اهتماماته وأولوياته، في حين أن الدول العربية والتي من المفترض أن تكون أولى بهذا الجهد ضد العدو الاسرائيلي، ليس فقط غابت عن المساهمة في هذه المقاطعة، بل تسارع لتقديم طوق النجاة لهذا الكيان من خلال اللهث وراء التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وإقامة علاقات أمنية واقتصادية وثقافية مفضوحة معه.