الوقت - منذ بداية العام الجديد أطلق زعماء حزب "الشعوب الديمقراطي" وفي مقدمتهم "صلاح الدين ديمرطاش" عدّة تصريحات دعوا من خلالها أكراد تركيا إلى تنظيم تظاهرات مليونية لدعم إقامة حكم ذاتي في مناطقهم والتنديد بسياسة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان.
لكن هذه الدعوات المتكررة لم تلق إستجابة واضحة من الأكراد وفضّل معظمهم إختيار السكوت تعبيراً عن رفضه لما آلت اليه الأوضاع في مناطقهم، خصوصاً بعد تجدد الاشتباكات بين الجيش وحزب العمال الكردستاني والتي أدت إلى مقتل وجرح العديد من المواطنين الأكراد.
ويعتقد الكثير من الأكراد ان سياسة حزب "الشعوب الديمقراطي" لن تحقق آمالهم وطموحاتهم، في وقت لازال فيه قادة هذا الحزب يطالبون بإقامة الحكم الذاتي ليس فقط في المناطق ذات الأغلبية الكردية ومنها الجزيرة وشرناك ودیاربکر وسلوبي وماردين؛ بل في مناطق ومدن أخرى بينها اسطنبول وإزمير وأنقرة.
يأتي هذا في وقت بدأت فيه نسبة التأييد لحزب الشعوب تتراجع بشكل ملحوظ في أغلب المناطق الكردية خصوصاً تلك التي تعاني من تردي الأوضاع الأمنية لاسيّما سلوبي ودیاربکر والجزيرة والتي أدت إلى نزوح الكثير منهم إلى مناطق أخرى.
وسبق لحزب الشعوب أن حقق مفاجأة في إنتخابات حزيران/يونيو 2015 بحصوله على 13% من الأصوات ما أهّله لدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه، لكن إعادة الإنتخابات في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي غيّرت الخريطة السياسية لهذا الحزب، إذ شهد تراجعاً وفقد أكثر من مليون صوت من إجمالي أصواته التي حصل عليها في الإنتخابات السابقة. وقد تصدر حزب "العدالة والتنمية" نتائج هذه الإنتخابات بحصوله على أعلى نسبة من الأصوات.
ويرى بعض المحللين ان تراجع حزب الشعوب يعود لعدم إتخاذه موقفاً واضحاً تجاه هجمات حزب العمال الكردستاني، فيما يرى آخرون أن المعارك التي إندلعت في المناطق الكردية ساهمت في خلق أجواء سياسية في تلك المناطق ومنعت حزب الشعوب من القيام بحملته الإنتخابية بشكل مطلوب، ولذلك صوّت مناصرو بعض الأحزاب الكردية لحزب "العدالة والتنمية"، ما جعل نسبة أصوات الأخير تزداد في الإنتخابات الأخيرة.
وفي الوقت الحاضر يفضل الكثير من الأكراد عودة الهدوء والاستقرار إلى مناطقهم على دعوات إقامة الحكم الذاتي التي يطلقها زعماء حزب "الشعوب الديمقراطي"، إذ يعتقد معظمهم انها دعوات لن يكتب لها النجاح، فيما يرى قسم منهم ان هذه الدعوات تشكل مغامرة لايمكن التكهن بنتائجها في ظل الأوضاع الأمنية المتردية في تلك المناطق.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن بعض الأكراد بات يشكك في نوايا حزب "الشعوب الديمقراطي" إلى درجة وصلت إلى حد إتهامه بالتواطؤ مع حزب "العدالة والتنمية" وشخص أردوغان بالذات، وتحميله كذلك مسؤولية إرتكاب أخطاء إستراتيجية جسيمة دفع الأكراد ضريبتها، وتجلت بشكل واضح في حالة التردي الأمني في الكثير من مناطقهم ومدنهم في الوقت الحاضر.
ومن هذه الأخطاء تعاون حزب الشعوب مع حزب العمال في وقت كان الأخير يشن هجمات ضد الجيش التركي والمؤسسات الحكومية والتي أدت إلى مقتل وجرح المئات من المواطنين بينهم الكثير من الأكراد. وقد إتخذت الحكومة التركية هذه الهجمات ذريعة لفرض حالة الطوارئ في العديد من المناطق الكردية، ما أدى إلى شل الحياة الاقتصادية وإلحاق أضرار كبيرة بأهالي هذه المناطق.
إلى جانب ذلك لازالت هجمات الجيش التركي على المدن الكردية ومن بينها دیاربکر وشرناك والجزيرة وسلوبي ونصيبين والتي أسفر آخرها عن مقتل أكثر من 20 مواطناً كردياً وجرح آخرين، تتسبب بزيادة القلق والاضطراب لدى أهالي هذه المناطق وتقليص فرصهم في العيش الآمن ومزاولة حياتهم الطبيعية بعيداً عن النزاعات المسلحة.
ويرى الكثير من المحللين ان بعض زعماء حزب الشعوب تحولوا بمرور الوقت إلى أداة طيّعة لتنفيذ أوامر "جمیل بایك" العضو البارز في قيادة حزب العمال الكردستاني، ما جعلهم يعتقدون بأن الأزمة بين الأكراد وأنقرة لن تجد طريقها للحل ما لم يحسموا خيارهم بالإنفصال عن حكومة حزب "العدالة والتنمية" أو التخلي نهائياً عن التفكير بإقامة حكم ذاتي في مناطقهم.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار سياسة حزب العدالة التي يعتقد المراقبون بأنها تهدف للهيمنة على مقدرات كافة القوميات والمكونات السياسية في البلاد، يمكن إدراك حجم المشكلة التي يعاني منها الأكراد، خصوصاً مع إستمرار نفوذ حزب العمال وبقاء تأثيره على حزب "الشعوب الديمقراطي" وتواصل المعارك بين مسلحي "العمال" والقوات التركية.
ورغم حاجة تركيا للسلم الداخلي في الوقت الحاضر لازالت حكومة أردوغان غير قادرة على حل الأزمة مع الأكراد، ووصل الأمر في بعض الأوقات إلى أن تقوم القوات التركية بقمعهم بصورة وحشية.
أخيراً يمكن القول من خلال قراءة هذه المعطيات ان السياسة الخاطئة التي إتبعها حزب "الشعوب الديمقراطي" وإستمرار حزب العمال الكردستاني بشن هجمات على الجيش التركي والمؤسسات الحكومية والاسلوب القمعي الذي تنتهجه حكومة أردوغان ضد الأكراد، هو الذي حال دون تسوية الأزمة الكردية من جانب، وأفشل جميع محاولات حزب الشعوب لإقامة حكم ذاتي في المناطق الكردية من جانب آخر.