الوقت - في خضمّ المشهد السياسي العراقي الراهن، ومع اقتراب الساعة من دقّاتها الأخيرة للدورة البرلمانيّة الحاليّة - إذ لم يتبقَ سوى أقل من عامٍ على انقضائها - وفي ظلّ عدم تحديد موعدٍ قطعيٍّ للاستحقاق الانتخابي المُقبل، الأمر الذي قد يُثير جدلاً واسعاً، يتّجه أعضاء مجلس النواب العراقي بخطىً حثيثةٍ نحو إقرار حزمةٍ من التشريعات المحوريّة، هذه التشريعات لا تقتصر أهميّتها على تحويل الدورة الحاليّة إلى مرحلةٍ استثنائيّةٍ في معالجة التحديات والإشكاليات الداخليّة، وتأصيل المنظومة القانونيّة العُرفيّة في العراق الجديد ما بعد 2003 فحسب، بل تمتدّ تأثيراتها لترسم ملامح المسار الانتخابي المُرتقب في العام المُقبل.
حَفِلَ جدول أعمال الجلسة البرلمانيّة المنعقدة يوم الأحد الماضي بثلاثة مشاريع قوانين جوهريّة، تصدّرها التصويت على تعديلات قانون الأحوال الشخصيّة رقم (188) لسنة 1959 وما طرأ عليه من تنقيحات، يليه التعديل الثاني لقانون العفو العام رقم (27) لسنة 2016، وصولاً إلى دراسة المسوّدة التشريعيّة لقانون "إعادة العقارات والممتلكات إلى ذويها الشرعيين".
وعلى الرغم من التباين الموضوعي الجليّ بين هذه المشاريع التشريعيّة الثلاثة، إلا أنها تتجلّى في مجملها كثمرةٍ لتوافقٍ سياسيٍّ رفيع المستوى بين الكتل البرلمانيّة الرئيسة، ممثّلةً في المكوّن الشيعي (الإطار التنسيقي)، والمكوّن السنّي، والمكوّن الكردي، وهذا التوافق الاستراتيجي هو ما أضفى على طرح هذه المشاريع مجتمعةً، طابع الضرورة والترابط المصيري.
ويبرز مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصيّة العراقي رقم 188 لعام 1959، المُقدّم من قِبَل تحالف الإطار التنسيقي، كأبرز هذه المشاريع وأكثرها إثارةً للجدل والنقاش المجتمعي، فقد أثار هذا المشروع حراكاً فكرياً وسياسياً غير مسبوق، سواءً داخل قاعة البرلمان أو في أوساط منظّمات المجتمع المدني، مُفرزاً استقطاباً حاداً بين المؤيّدين والمعارضين لمضامينه وتوجّهاته.
يُمثّل قانون الأحوال الشخصيّة، منظومةً قانونيّةً متناسقةً تضبط إيقاع العلاقات الإنسانيّة في أدقّ تفاصيلها، إذ يتناول بالتنظيم والتقنين شؤون النَسَب، وأحكام الزواج، وروابط القرابة، ومسائل الولادة، وقضايا الولاية والحضانة، فضلاً عن تنظيم المنظومة المتكاملة للحقوق والواجبات المتبادلة، ومن المُرتقب أن تُفضي التعديلات المُقترحة إلى تحوّلاتٍ جوهريّةٍ في منظومة النفقة، وأحكام الحضانة، وقواعد الميراث، وضوابط الوصيّة.
وتكشف المصادر الإعلاميّة العراقيّة عن محاور الجدل الرئيسة حول التعديلات المُقترحة، والتي تتمحور بصورةٍ جوهريّةٍ حول خمس قضايا محوريّة: تحديد السنّ القانوني لزواج الإناث، وإلزاميّة توثيق عقود الزواج في المحاكم القضائيّة، وتحديد المرجعيّة القانونيّة للنكاح، وصياغة حقوق المطلّقات، وتنظيم أحكام حضانة الأبناء.
ومن الجدير بالذكر أنّ المسيرة التشريعيّة لقانون الأحوال الشخصيّة العراقي قد شهدت سبعة عشر تعديلاً حتى عام 1999، ثم دخل في مرحلة من الجمود التشريعي امتدّت لربع قرنٍ من الزمان.
وتتجلّى أهميّة التعديلات المطروحة حالياً في كونها تُتيح للعراقيين - بمختلف مكوّناتهم المذهبيّة - الاحتكام إلى أحكامهم الشرعيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة، وبمقتضى المقترحات التشريعيّة الجديدة، سيتمّ إدماج المذهب الجعفري للمكوّن الشيعي والمذهب الحنفي للمكوّن السنّي في صلب القانون، ما يُرسّخ مبدأ احترام التعدديّة المذهبيّة في المنظومة التشريعيّة العراقيّة، ويُعزّز من تماسك النسيج الاجتماعي.
تشهد الساحة السياسيّة والمجتمعيّة العراقيّة حراكاً فكرياً وقانونياً لافتاً، إذ يُقابل الدعم الواسع للتعديلات التشريعيّة في أروقة البرلمان والأوساط الشعبيّة بموجة من الاعتراضات والانتقادات، تتصدّرها الأصوات المناصرة للتوجّه العلماني، والتي تُنادي بالحفاظ على الطابع المدني للمنظومة القانونيّة العراقيّة، وقد تجلّى هذا الاستقطاب بوضوحٍ في المشهد الإعلامي.
ويطرح المعارضون إشكاليّةً جوهريّةً تتمثّل في إغفال التعديلات المقترحة لمسألةٍ بالغة الحساسيّة، ألا وهي الزواج بين أتباع المذاهب المختلفة، فيتساءلون عن المرجعيّة القانونيّة والشرعيّة في حالات اقتران رجلٍ سنّيّ بامرأةٍ شيعيّة، وكيفيّة معالجة ما يترتّب على ذلك من قضايا الميراث والطلاق وحضانة الأبناء.
في المقابل، يرى المؤيّدون أنّ هذه الإشكاليّات ليست عصيّةً على الحل، إذ يمكن معالجتها بالرجوع إلى الاجتهادات الفقهيّة للمذهبين الشيعي والسنّي، مؤكّدين أنّ هذه التفاصيل الإجرائيّة لا تنال من المقاصد الكليّة للمشروع، ويستندون في موقفهم إلى المادّة 41 من الدستور العراقي، التي تكفل للعراقيين حريّة الالتزام بأحوالهم الشخصيّة وفقاً لمعتقداتهم ومذاهبهم.
ويُدلي سعدون منتظر، القيادي في حزب الدعوة الإسلاميّة وأحد أبرز المدافعين عن التعديلات، بدلوه في هذا النقاش، مؤكّداً حصول المشروع على دعمٍ برلمانيٍّ واسع يصل إلى "75 بالمئة من النوّاب الحاليين"، ويُعلّل هذا الدعم الواسع بقوله: "إنّ التعديلات المقترحة تنسجم تماماً مع روح المادّة 41 من الدستور، التي تصون حقوق جميع المكوّنات المذهبيّة والطائفيّة".
ويستطرد قائلاً: "إنّ المجتمع العراقي يواجه تحدّياتٍ عميقةً في قضايا الزواج والطلاق وحضانة الأطفال، وتأتي هذه التعديلات لتقدّم معالجاتٍ جذريّةً لهذه الإشكاليّات المستعصية".
ويتبنّى المؤيّدون رؤيةً تفاؤليّةً إزاء تأثيرات التعديلات المُقترحة على النسيج الأُسري العراقي، إذ يؤكّدون أنّ التعديلات الجديدة لقانون الأحوال الشخصيّة لن تُفضي إلى تصاعد معدّلات الطلاق، بل يستشرفون انخفاضاً ملموساً في وتيرة التفكّك الأُسري عقب تطبيق المنظومة التشريعيّة الجديدة.
انفراجٌ برلمانيٌّ مع انتخاب المشهداني
شهد المشهد البرلماني تطوّراً لافتاً تمثّل في الدعم الواسع الذي حظيت به المشاريع التشريعيّة الثلاثة المحوريّة - قانون الأحوال الشخصيّة، ومسوّدتا العفو العام وإعادة العقارات، ويُمكن قراءة هذا التوافق غير المسبوق كثمرةٍ من ثمار تجاوز أزمة رئاسة البرلمان، الأمر الذي انعكس بصورةٍ إيجابيّةٍ على تيسير العمليّة التشريعيّة، وتخفيف حدّة الاستقطاب بين الكتل السياسيّة في المشهد السياسي العراقي.
ومن الجدير بالذكر أنّ مسيرة تعديل قانون الأحوال الشخصيّة، قد انطلقت في يوليو 2024 بمبادرةٍ من النائب الشيعي رائد الركابي، وخلال هذه الفترة الزمنيّة الممتدّة، برز كحدثٍ محوريٍّ تجاوز عقبة انتخاب رئيسٍ جديدٍ للبرلمان، والذي تحقّق بفضل التوافق بين المكوّن السنّي والإطار التنسيقي، مُتوّجاً بانتخاب محمود المشهداني لرئاسة المجلس التشريعي.
لقد شهدت المؤسّسة التشريعيّة العراقيّة فراغاً دستورياً غير مسبوق في منصب رئاستها امتدّ لعامٍ كامل، إثر استقالة رئيسها السابق محمد الحلبوسي في نوفمبر 2023، على خلفيّة اتّهاماتٍ بالتزوير، واستمرّ هذا الشغور المؤسّسي حتى يوم الخميس الموافق 31 أكتوبر 2024، حين توّج المجلس مساعيه بانتخاب محمود المشهداني رئيساً للبرلمان، وذلك بأغلبيّةٍ برلمانيّةٍ وازنة بلغت 182 صوتاً.
وقد أظهرت القوى السياسيّة، بمختلف توجّهاتها، حرصاً على ضرورة حسم ملف رئاسة المجلس قبل حلول عطلة رأس السنة الميلاديّة، وفي أعقاب هذا الإنجاز المؤسّسي المتمثّل في انتخاب المشهداني، صوّت المجلس على تمديد دورته التشريعيّة لمدّة شهرٍ إضافي، في خطوةٍ تعكس الإرادة السياسيّة لاستكمال الاستحقاقات التشريعيّة العالقة.
وفي مستهلّ مهامه الدستوريّة، وعقب أدائه اليمين القانونيّة، أطلق المشهداني حزمةً من التعهّدات، في مقدّمتها تذليل العقبات التي تعترض المسار التشريعي، وتفعيل الدور الرقابي للبرلمان على الأداء الحكومي، مؤكّداً عزمه على الارتقاء بالأداء المؤسّسي للسلطة التشريعيّة، وتعزيز دورها الدستوري في المشهد السياسي العراقي.
التوافق الكبير؛ تنافس الإطار التنسيقي والتيّار الصدري
يُمثّل الدعم غير المسبوق لإقرار قانون الأحوال الشخصيّة تحوّلاً جوهرياً في المشهد السياسي، إذ كان يبدو في الجلسة السابقة عصيّاً على التحقّق، نظراً لعمق التباينات وحدّة الاستقطاب بين القوى والكتل السياسيّة، ويندرج هذا التحوّل في إطار توافقٍ شامل، حيث نجحت الكتل في تجاوز خلافاتها عبر مقاربةٍ سياسيّةٍ متوازنة، تقوم على التصويت لحزمةٍ تشريعيّةٍ ثلاثيّة متكاملة.
وتبرز في المشهد التوافقي مجموعةٌ من الأحزاب السنيّة التي توصّلت إلى تفاهماتٍ مع القوى الشيعيّة، تقضي بدعم تعديلات قانون الأحوال الشخصيّة مقابل إقرار مسوّدة قانون العفو العام.
ويُشكّل قانون العفو العام أحد المطالب المحوريّة والتاريخيّة للمكوّن السنّي في العراق منذ عام 2003، وتكشف تقارير منظّمات المجتمع المدني، عن قيام الأجهزة الأمنيّة باعتقال آلاف المواطنين من العرب السنّة دون مستنداتٍ قانونيّةٍ أو مسوّغاتٍ دستوريّة، تحت مظلّة مكافحة الإرهاب.
وكانت المادّة الرابعة من مسوّدة تعديل قانون العفو العام، المتعلّقة بضبط وتحديد معايير الانتماء للتنظيمات الإرهابيّة، تُشكّل نقطة الخلاف الجوهريّة، وقد تقدّمت الأحزاب السنيّة بالمسوّدة الثانية لهذا القانون إلى البرلمان في سبتمبر 2022، بالتزامن مع تشكيل حكومة السوداني، وظلّت في دائرة التجميد التشريعي حتى اللحظة الراهنة.
يتبوّأ المكوّن الكردي موقعاً وازناً في المنظومة التوافقيّة والسلّة التشريعيّة الشاملة، متمثّلاً في إقرار قانون "إعادة الممتلكات والعقارات إلى أصحابها الشرعيين"، وهو استحقاقٌ تاريخيٌّ طال انتظاره.
يرسي هذا القانون المفصلي أُسساً قانونيّةً لإعادة الأملاك والأراضي الزراعيّة التي صودرت في عام 1975 إبّان حقبة صدّام إلى أصحابها الشرعيين، وفي مقدّمتهم المتضرّرون من الأكراد والتركمان والمسيحيين، وقد تضمّن التشريع منظومةً متكاملةً للتوثيق العقاري تضمن الحيلولة دون تكرار التجاوزات مستقبلاً، مع إرساء آليّاتٍ تنفيذيّةٍ محكمة لتفعيل قرارات استرداد الممتلكات والتعويض العادل، بما يكفل التطبيق الأمثل للقانون، ويُعزّز دعائم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المناطق المستهدفة.
وتتمركز غالبيّة هذه الأراضي في محافظة كركوك، التي تُشكّل محور جدلٍ مستمر بين السلطة المركزيّة في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق، حول صيغة إدارتها الفيدراليّة.
وما لا شكّ فيه أنّ هذه المعادلة التشريعيّة المتوازنة، نظراً لثقلها الاستراتيجي وأهميّة القوانين المدرجة في سلّة التوافق لكلٍّ من التحالفات الثلاثة - الشيعيّة والسنيّة والكرديّة - ستُشكّل أداةً أساسيّةً لتعزيز الدوافع السياسيّة للقوى الفاعلة لترسيخ هذه الشراكة الوطنيّة، وصون مكتسباتها في المؤسّستين التشريعيّة والتنفيذيّة المقبلتين.
تكتسي هذه التطوّرات أهميّةً استثنائيّةً في ظلّ اقتراب المناقشات المصيريّة حول تحديد موعد الانتخابات البرلمانيّة المرتقبة العام المقبل، وتتزايد التوقّعات بعودةٍ مرتقبة للتيّار الصدري إلى المشهد السياسي، ما قد يُفضي إلى احتدام المنافسة بين قوى الإطار التنسيقي والتيّار الصدري على تشكيل التحالف الحكومي المقبل.
وفي قراءةٍ تحليليّةٍ للمشهد، يرى مراقبون أنّ نجاح قوى الإطار التنسيقي في تمرير مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصيّة، يُمثّل تحوّلاً في ديناميكيّات التنافس مع التيّار الصدري.
وكان السيّد مقتدى الصدر قد أطلق في مايو 2024 مبادرةً لإدراج عيد الغدير، المُصادف لثامن عشر ذي الحجّة، في التقويم الرسمي للدولة، وقد شكّل تبنّي مجلس الوزراء لهذا المقترح انتصاراً معنوياً لأنصاره في الوسط الشيعي العراقي، معزّزاً مكانته الدينيّة وثقله الروحي في المشهد العام.
ويذهب المحلّلون إلى أنّ تجاوز العقبات التي كانت تعترض تعديل قانون الأحوال الشخصيّة، نظراً لتأثيراته الجوهريّة في إعادة صياغة منظومةٍ واسعة من القوانين العرفيّة، وتحويلها من صيغتها العلمانيّة الغربيّة إلى صيغةٍ تستلهم الهويّة الدينيّة والخصوصيّة العراقيّة، سيُفضي إلى توسيع دائرة الدعم من المرجعيّات الدينيّة والحوزات العلميّة والشرائح المجتمعيّة المحافظة، كما سيُسهم في ترسيخ أواصر العلاقة بين أحزاب الإطار التنسيقي ومراجع التقليد في النجف الأشرف، ما سينعكس إيجاباً على قاعدتهم الشعبيّة في الاستحقاق البرلماني المقبل.