الوقت - في مشهد سياسي متسارع، وبعد ستة أيام فقط من سقوط دمشق في قبضة المعارضة المسلحة، وبينما لا يزال المشهد السياسي والأمني يكتنفه الضباب، بدأت بعض القوى الإقليمية في تثبيت أقدامها على أرض العاصمة السورية، ساعيةً لحجز موقع متقدم في خارطة النفوذ المستقبلية.
وفي تحول دراماتيكي لافت، سارعت تركيا وقطر - اللتان كانتا تدّعيان عدم درايتهما بهجوم الجماعات المسلحة على حلب - إلى كشف أوراقهما الدبلوماسية، موفدتين وفوداً رفيعة المستوى إلى دمشق في ما يبدو ظاهرياً احتفالاً بالنصر، إلا أنه في حقيقته محاولة لتعزيز نفوذهما وتوجيه دفة الأحداث.
وفي تطور لافت، كشفت وزارة الإعلام السورية يوم الخميس الماضي عن لقاءات مرتقبة تجمع كلا من "هاکان فيدان"، وزير الخارجية التركي، و"إبراهيم كالين"، رئيس جهاز المخابرات التركي، إضافةً إلى رئيس الجهاز الأمني القطري، مع "أحمد الشرع" (أبو محمد الجولاني)، قائد هيئة تحرير الشام، و"محمد البشير"، رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية السورية.
وأشار البيان الرسمي إلى أن اللقاءات المرتقبة تهدف إلى دمج الحكومة السورية الجديدة في المنظومتين العربية والدولية، في خطوة تعكس تحولاً جذرياً في المشهد السياسي الإقليمي.
وبالتزامن مع هذه التحركات الدبلوماسية، كشفت وكالة الأناضول عن قرار أنقرة إعادة فتح سفارتها في دمشق بعد انقطاع دام اثني عشر عاماً، وقد تم تكليف برهان كوراوغلو، السفير التركي في موريتانيا، بمهام القائم بالأعمال المؤقت في العاصمة السورية، مع توقعات باستئناف النشاط الدبلوماسي الكامل للسفارة والقنصلية التركية خلال الأسبوع المقبل.
وفي سياق متصل، أعلنت الدوحة عن عزمها إيفاد أول وفد رسمي يوم الأحد للتباحث مع الحكومة الانتقالية السورية، بهدف مناقشة إعادة تفعيل التمثيل الدبلوماسي القطري، وتطوير آليات إيصال المساعدات الإنسانية.
غير أن هذا النشاط الدبلوماسي المحموم يأتي في ظل ظروف بالغة التعقيد، إذ تشهد سوريا، في أعقاب انهيار نظام الأسد وتولي الحكومة الانتقالية بقيادة هيئة تحرير الشام زمام الأمور، تصعيداً إسرائيلياً غير مسبوق، فقد قام الكيان الصهيوني باحتلال مساحات شاسعة من الأراضي السورية، مع تدمير ممنهج للبنية التحتية العسكرية والاستراتيجية عبر سلسلة من الغارات المتتالية، وسط صمت مريب من القيادة الجديدة في دمشق.
هذه التطورات المتسارعة ألقت بظلال قاتمة على المشهد السوري، وعمّقت مخاوف المواطنين حيال مستقبلهم، وأثارت تساؤلات جدية حول مدى التزام القوى المسلحة بتعهداتها، وخاصةً في ظل عجزها الظاهر عن صدّ الاعتداءات الخارجية وحماية السيادة الوطنية.
أهداف تركيا وقطر
في خِضَم التحولات الدراماتيكية التي تشهدها الساحة السورية، تبرز تركيا وقطر كلاعبين محوريين في تشكيل ملامح المرحلة القادمة، فهاتان القوتان، اللتان تصدرتا المشهد كداعمتين رئيسيتين - مالياً ولوجستياً - للفصائل المعارضة، تسعيان الآن لترجمة استثماراتهما السابقة إلى مكاسب استراتيجية ملموسة في أعقاب التغيير الجذري للمشهد السياسي.
في قراءة للمشهد التركي، تتجلى استراتيجية أنقرة في استثمار هذا المنعطف التاريخي لتعزيز أمنها القومي وتوسيع نطاق نفوذها الإقليمي، وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح في الخطاب السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يعكس طموحات جيوسياسية واسعة النطاق في الشمال السوري.
وفي مشهد ذي دلالات رمزية، حظيت الصور الموثقة لزيارة إبراهيم كالين للجامع الأموي في دمشق باهتمام الأوساط السياسية والإعلامية، حيث تستحضر في طياتها أصداء السياسة العثمانية الجديدة، وتؤشر إلى عودة النفوذ التركي إلى الساحة السورية بأبعاد تاريخية وحضارية.
أما في الجانب القطري، فإن الدوحة - التي استثمرت ما يتجاوز عشرة مليارات دولار في دعم الجماعات المسلحة خلال العقد المنصرم من الأزمة - تسعى الآن إلى تحويل هذا الاستثمار المالي الضخم إلى نفوذ سياسي راسخ في بنية النظام السياسي الجديد، عبر نسج شبكة علاقات استراتيجية مع القوى المسيطرة في دمشق.
ويتجاوز المسعى التركي-القطري المشترك حدود تحقيق المصالح الوطنية الضيقة، إذ يهدف البلدان من خلال إعادة تفعيل تمثيلهما الدبلوماسي في دمشق، إلى تذليل العقبات أمام الاعتراف الدولي بالسلطة الجديدة، وخاصةً في ظل استمرار تصنيف هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل المسلحة ضمن قوائم المنظمات الإرهابية في غالبية دول العالم.
ما هي تساؤلات الشعب السوري حيال هذا الوضع؟
في قراءة للمشهد السوري الراهن، تتجلى مفارقة دراماتيكية تستحق التأمل، فالشعب السوري الذي حمل في طياته انتقادات مشروعة للنظام السابق، ووقف قطاع منه في صف المعارضة لحكم الأسد، يجد نفسه اليوم أمام معضلة أشدّ وطأةً وأعمق أثراً.
يتجسّد القلق الجماعي في المشهد المقلق للحضور المكثف للعناصر المسلحة، بهيئاتهم وملابسهم التي تستحضر في الذاكرة الجمعية صوراً قاتمةً للجماعات التكفيرية؛ هذه الجماعات التي خطت بتفسيراتها المتحجرة للشريعة سجلاً داكناً من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في مساحات شاسعة من الجغرافيا السورية، وبالأخص في الرقة، ولا تزال مشاهد الإعدامات الوحشية واسترقاق النساء والأطفال تبعث الرعب في أوصال المجتمع السوري، متوجساً من عودة تلك الحقبة المظلمة.
وفي خضم هذا المشهد المضطرب، تبرز مفارقة أخرى، فبينما تسعى منظومة إعلامية واسعة من المنابر المعارضة للنظام السابق إلى تسويق صورة معتدلة وعقلانية ووطنية لقادة الفصائل المسلحة، وعلى رأسهم الجولاني، يظل سجلهم التاريخي الدامي شاهداً يؤرق الوجدان الشعبي.
ويطرح المجتمع السوري تساؤلاً جوهرياً آخر يمسّ صميم الأمن القومي، فقد كان الوعد المعلن أن يتحقق الأمن والاستقرار برحيل الأسد، إلا أن الواقع الراهن يشهد تصاعداً غير مسبوق في التهديدات الخارجية، ما جعل الفضاء السوري أكثر انكشافاً وهشاشةً من أي وقت مضى.
في المشهد الراهن، يستغل الكيان الصهيوني حالة الفوضى المستشرية ليوسّع رقعة احتلاله، متوغلاً حتى تخوم العشرين كيلومتراً من العاصمة دمشق، في حين يستفيق المواطنون يومياً على دوي الصواريخ الإسرائيلية.
ورغم الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية خلال العقد المنصرم، إلا أن الأيام الأخيرة شهدت تدميراً ممنهجاً للبنية التحتية والقدرات العسكرية السورية في ظل غياب المؤسسة العسكرية، وهو ما سيستلزم عقوداً لإعادة بنائه، والأكثر إثارةً للقلق، هو الصمت المطبق للفصائل المسلحة إزاء هذه الاعتداءات.
وفي مفارقة لافتة، تحولت تركيا، التي تقدّم نفسها راعياً للمصالح السورية ومدعيةً السعي لإحلال السلام والاستقرار، إلى عنصر تأزيم إضافي في المعادلة المعقدة.
في المشهد السوري الراهن، تتجلى المفارقة في العمليات العسكرية التركية بشمال سوريا، المتذرعة بمواجهة النزعات الانفصالية الكردية، فهذه العمليات، بدلاً من تحقيق الأمن المنشود، تؤجج دوامة عدم الاستقرار وتعمّق جذور الأزمة.
وفي سياق أكثر خطورةً، يكشف المشهد عن مخططات أردوغان التوسعية في الشمال السوري، وقد تجلت بوضوح صارخ في خطابه الأخير يوم الجمعة الماضي حين صرح: "لولا تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لظلت حلب والشام وحماة وحمص، شأنها شأن غازي عنتاب وإسطنبول، جزءاً من النسيج التركي، ولبقينا في كيان موحد".
هذا الخطاب يكشف عن استراتيجية ناعمة يتبناها أردوغان، متخذاً من مكافحة الإرهاب ذريعةً لترسيخ الوجود العسكري في الشمال السوري، مستفيداً من هيمنة الفصائل الموالية له على مقاليد السلطة في دمشق.
وفي خضم تصاعد موجة اليأس والإحباط في أوساط الشعب المتطلع لتحسين أوضاعه، تشهد الدعاية الإعلامية للفصائل المسلحة انحساراً متسارعاً في محاولاتها لإظهار الدعم الشعبي لتحركاتها، وقد تجلى عمق هذه الأزمة، في استنفار الجولاني للظهور في خطاب تلفزيوني، داعياً الجماهير للنزول إلى الشوارع والاحتفال، في محاولة لإضفاء شرعية شعبية على المشهد القائم.
کذلك، تلقي الأزمة الاقتصادية المستفحلة بظلالها القاتمة على المشهد السوري، حيث يعاني المواطنون من شحّ الوقود وتصاعد الأسعار والاضطرابات النقدية، ما أدى إلى انهيار غير مسبوق في مستويات المعيشة.
وفي هذا المناخ العصيب، حيث تتلاشى آمال الشعب في تحسن ظروفه المعيشية، تتحرك تركيا وقطر على المستويين السياسي والمالي في محاولة ظاهرية لبثّ روح من الحيوية في المجتمع السوري المنهك. وتسعى قطر، مستثمرةً عائداتها النفطية، لضخّ تدفقات مالية في الاقتصاد السوري، في محاولة لتخفيف وطأة المعاناة وزرع بذور الأمل.
غير أن هذه المبادرات لا تتجاوز كونها مسكنات مؤقتة قد تخفف من حدة الألم في المدى القصير، لكنها تفتقر إلى المعالجة الجذرية للأزمة، فطالما لم يتحقق الأمن الشامل ولم تنحسر التهديدات الخارجية، سيظل السوريون أسرى دوامة الخوف والقلق.