الوقت - كتب الدکتور سعد الله زارعي الخبیر السياسي في مقال له قائلاً: بصرف النظر عن كون التحول الاستراتيجي الذي شهدته سوريا في الفترة الممتدة من السابع وحتى الثامن عشر من شهر آذار/ديسمبر قد جاء وفقاً لمخطط معروف وموثق على مدار سنوات، إلا أن مستقبل سوريا - سياسياً وإدارياً ودبلوماسياً - لا يزال يكتنفه غموض كثيف، وتتجلى مؤشرات هذا القلق في عدة محطات رئيسية، مثل انعقاد القمة العربية الطارئة في الأردن وما تمخض عنها من بيان ختامي، وتصريحات القيادات العليا في هيئة تحرير الشام، والمواقف الرسمية للمسؤولين الأمريكيين، والسلوك السياسي والعملياتي للكيان الصهيوني.
وفي ظل هذه المعطيات، يصعب استشراف صورة واضحة المعالم للمستقبل القريب، فقد سعت قيادات هيئة تحرير الشام، مع تبنيها نهجاً متزناً في خطابها السياسي، إلى ضبط الأوضاع الداخلية عبر تقديم وعود اقتصادية طموحة، كرفع الرواتب بنسبة 400%، وتهدئة مخاوف الأطراف الخارجية من خلال التعهد بتشكيل "حكومة تكنوقراط".
بيد أن هذه الوعود تصطدم بعقبتين رئيسيتين، هما استحالة تنفيذ الوعود الاقتصادية في ظل شح الموارد المالية الحاد، وصعوبة تشكيل حكومة تكنوقراطية عملية - وهو مطلب غربي-عربي مشترك - في ظل غياب التوافق حتى بين المجموعات المشكِّلة لهيئة تحرير الشام (4-6 مجموعات)، وتعدد الفصائل الرئيسية النشطة في مختلف المناطق السورية (حوالي 15 فصيلاً).
إن النکوص عن الوعد السابق بإقامة خلافة إسلامية، يضع القيادة الجديدة المدَّعية للسلطة في دمشق أمام معضلة أمنية جوهرية تتمثل في تنظيم "داعش" الإرهابي، فمع انهيار وتدمير السجون، أضحى ما يناهز العشرين ألف مقاتل من عناصر "داعش" ينتشرون في الأراضي السورية، ولا سيما في النطاقين الشرقي والشمالي، مترصدين حركات هيئة تحرير الشام.
يكتسي هذا التحدي أهميةً بالغةً، إذ يضع قيادات السلطة المدَّعية في دمشق تحت ضغط استثنائي في حال تبنيهم نموذج الحكومة التكنوقراطية، وقد صدر بيان علمائي موقَّع من عشرات المرجعيات الدينية من شتى البلدان، يؤكد على ضرورة تأسيس دولة ذات مرجعية دينية، وإحياء نظام الخلافة الإسلامية.
تواجه القيادة الجديدة في دمشق معضلتين متلازمتين، هما الضغط الأمني المتصاعد من تنظيم "داعش"، والمطالب العقائدية من العلماء الذين يمثّلون المرجعية الروحية للتيارات التكفيرية في بلدانهم، ويمتلكون نفوذاً في تشكيل المجموعات المسلحة في سوريا.
وفي المشهد الإقليمي والعربي-الإسلامي الأوسع، تنفرد تركيا بدعم فكرة الخلافة، لكن وفق رؤية مغايرة ترفض نموذج "داعش" المتشدد، وتعارض مركزية دمشق، وتطرح نموذج "خلافة تكنوقراطية سُنّية" بمركزية تركية.
يتبنى حزب العدالة والتنمية التركي موقفاً متميزاً يرفض النموذج الشرعي المتشدد لـ"داعش"، وإحياء النمط الأموي للخلافة، يدعم نموذجاً عصرياً للخلافة، ومركزيةً تركيةً (أنقرة أو غيرها)، وعليه، يمكننا القول إن جميع الأطراف التي اتحدت سابقاً لإسقاط نظام الأسد، تجد نفسها اليوم منقسمةً حول شكل "الحكومة البديلة"، ما يضع سوريا أمام تحديين رئيسيين، هما تحدي "الاستقرار" وتحدي تشكيل حكومة مستقرة.
لقد تجلّى بوضوحٍ لا يقبل الشك أن جميع المتآزرين والمتواطئين في مسعى إسقاط الحكومة المتحالفة مع المقاومة، قد افتقروا إما إلى رؤية مشتركة بشأن "البديل المنشود"، أو أن مجريات الواقع قد عصفت بتصوراتهم المشتركة وأطاحت بها، وما لا ريب فيه أن الجماعات الإرهابية المسلحة في سوريا تعاني من انقسامات عميقة، تفاقمت حدتها لتصل إلى حد الاقتتال المسلح العنيف فيما بينها - وهي معضلة جوهرية لن يُجدي في حلها مجرد تحقيق نصر مشترك على نظام بشار.
فالجماعات المتجردة من القيم الروحية الأصيلة، والتي تتخذ من الدين مطيةً للوصول إلى سدة الحكم، ستحوّل ساحة النصر حتماً إلى ميدان للتنازع على المكاسب والنفوذ، وعليه، نحن إزاء مستوىً جذري من التناقض الداخلي ذي الطبيعة الأمنية في جوهره ومآلاته، يتجاوز في تعقيداته مجرد الخلافات التقليدية بين الأحزاب السياسية.
وفيما يخص مسألة التغيير في سوريا، تتصور تركيا نفسها محوراً استراتيجياً، وتسعى حثيثاً لتأسيس حكومة تجمع بين التكنوقراطية والطابع الديني في إطار التبعية لأنقرة، بحيث تحظى بمشروعية إقليمية ودولية، مع الحرص على ألا تؤدي مستقبلاً إلى تعزيز النزعات الشرعية في تركيا ذاتها، إذ تتعارض هذه النزعات جوهرياً مع الرؤية البان-تورانية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، كما أنها تشكّل عائقاً أمام تعاون الدول التركية العلمانية على ضفتي بحر قزوين مع المشروع المطروح.
بيد أن السؤال المحوري يظل قائماً: هل يمكن إقامة حكومة تكنوقراطية-دينية في سوريا تحت المظلة التركية بالسهولة التي يتصورها رجب أردوغان وهاكان فيدان في مخططاتهما النظرية؟ الإجابة قطعاً بالنفي، فهذا المشروع يواجه معارضةً شديدةً داخلياً وإقليمياً ودولياً، فالدول العربية، على سبيل المثال لا الحصر، لن تقبل بمثل هذا التصور، ما يضاعف من التكلفة الاستراتيجية للمغامرة التركية.
والسؤال الأهم: هل تمتلك تركيا المقومات الاقتصادية والسياسية لفرض رؤيتها في سوريا في ظل المعارضة الشديدة من المحاور العربية والغربية والروسية؟ إن نمط السلوك التركي خلال الأسبوع الأول عقب سقوط الحكومة السورية، يعكس حالةً من القلق والحذر الشديدين لدى صناع القرار الأتراك.
فقد سعى المسؤولون الأتراك إلى تهيئة الأجواء لتشكيل الحكومة المنشودة في سوريا عبر التأكيد على مبادئ "شمولية التمثيل الحكومي"، و"صون حقوق المكونات العرقية والمذهبية"، و"الانسجام مع المحيط الإقليمي"، و"الحرص على إقامة علاقات متوازنة مع إيران وحزب الله".
يتجلى من خلال مضامين الاجتماع الأخير والبيان الختامي للدول العربية ومجموعة الاتصال، إلى جانب الطابع الاستعجالي للجلسة، مدى القلق العميق الذي يساور هذه الأطراف إزاء المسار المتعلق بتشكيل السلطة في سوريا، ومن اللافت للنظر أن الاعتداءات الصهيونية واحتلال أجزاء من الأراضي السورية - رغم كونها القضية الأكثر إلحاحاً وخطورةً - لم تحظَ إلا بالنزر اليسير من الاهتمام في البيان والتصريحات.
وقد انصب جُل التركيز في خطابهم على ضرورة أن تتسم الحكومة السورية الجديدة بـ"الطابع المدني غير الطائفي" و"الاستقلالية عن النفوذ الخارجي" و"التناغم مع المنظومة العربية"، كما يحمل انعقاد القمة العربية الطارئة في الأردن دلالات عميقة، إذ يمثّل موقفاً مضاداً للمحورية التركية المتنامية.
إن النموذج الحُكمي المطروح في البيان - والمتمثل في "حكومة علمانية عربية" (أي إعادة إنتاج الجمهورية العربية السورية بثوب جديد) - يتناقض جوهرياً مع النموذج التركي المنشود، فالدول العربية المشاركة في اجتماع الأردن، ترفض قطعياً فكرة المركزية العربية لدمشق، كما تقف بحزم ضد إقامة كيان ذي طابع خلافي أو يدور في فلك الإخوان المسلمين، ويشكّل هذا الموقف تحدياً استراتيجياً يواجه في المقام الأول المتطلعين إلى تشكيل السلطة في سوريا، وفي المقام الثاني الحكومة التركية ذاتها.
وفي حين تغتبط الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بكسر حلقة المقاومة في سوريا، معتبرين إياه إنجازاً استراتيجياً، إلا أنهما يستشعران قلقاً بالغاً إزاء "المشهد المستقبلي"، وقد برهنت الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، عن عجز واضح في إدارة البيئات المضطربة، فبينما راج في وقت من الأوقات أن استراتيجية واشنطن في غرب آسيا تقوم على ما تُسمى بـ"الفوضى الخلاقة"، إلا أن مجريات الأحداث في العراق وأفغانستان واليمن قد برهنت على إخفاق هذه النظرية في المناطق الثلاث التي تعصف بها الفوضى، ولم يغب عن حسابات الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، احتمال أن تكون التطورات المقبلة أشدّ وطأةً وتعقيداً مما واجهوه سابقاً.
تُفصح هذه المخاوف المتنامية، وبدرجة عالية من اليقين، أن البديل المرتقب لنظام الأسد لن يتمثل في حكومة الجولاني أو البشير، حتى مع تعهدهما الصريح بالتنازل الكامل عن الجولان للكيان الصهيوني، ويبرز في هذا السياق مشهدان محتملان، قد يُفاقمان الوضع السوري سوءاً بالنسبة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحلفائهما الإقليميين:
المشهد الأول: نشوء تيار تكفيري منفلت من عقال السيطرة، يُهيئ - دون قصد - مناخاً مواتياً لمناهضي النظام وأمريكا في سوريا، ما سيضع هاتين القوتين في موضع بالغ الهشاشة والانكشاف الاستراتيجي.
المشهد الثاني: انبثاق نسخة سورية من "حزب الله اللبناني" من رحم هذه الفوضى العارمة، تُعيد صياغة الهوية المقاومة لسوريا وتُعزز أركانها على المدى البعيد، وإذا تحقق هذا السيناريو - الذي تتوافر مقوماته وأرضيته الخصبة - فسيُحدث انقلاباً جذرياً في المعادلة، محوّلاً أمريكا والكيان الصهيوني من موقع الرابح، إلى موقع الخاسر في مسار التغيير.
ولهذا السبب تحديداً، تتعالى أصوات القلق في الأوساط الأمريكية-الإسرائيلية إزاء المآلات المستقبلية، ما يؤكد وقوع واشنطن وتل أبيب في دائرة الضبابية الاستراتيجية.
ويتصدر العامل الاقتصادي المشهد كمحور جوهري في ديناميكيات التغيير. فالتحول السياسي في سوريا نجم أساساً عن إخفاق الحكومة في تلبية المتطلبات المعيشية للشعب، وبالمقابل، فإن المعطى الاقتصادي سيكون الفيصل في ترسيخ أركان أي حكومة، أو تسريع وتيرة تعاقب الحكومات وتوالي الانتفاضات وتفشي الفوضى.
ومن هذا المنطلق تحديداً، أطلقت المجموعة الجديدة وعوداً طموحةً بتحسين الأوضاع وإحداث زيادات جوهرية في الرواتب والدخل، كما تضمنت البيانات العربية تأكيدات على ضرورة المساهمة في معالجة الأزمات الاقتصادية السورية.
غير أن الشواهد التاريخية تشير إلى أن الدول العربية الثرية - وفي مقدمتها الإمارات والسعودية وقطر - لن تبادر إلى تقديم مساعدات جوهرية دون ضمانات صلبة لمصالحها الاستراتيجية.
ويتجلى ذلك في شحّ مساعداتها الاقتصادية لحكومات أفغانستان المتعاقبة، وكذلك لبنان والصومال والسودان وغيرها - بما فيها سوريا في عهد الأسد - التي عصفت بها أزمات اقتصادية حادة، وحتى مع افتراض تدفق مساعدات من أبوظبي والدوحة والرياض إلى دمشق، فستظل حتماً دون المستوى المطلوب لإعادة تطبيع المشهد الاقتصادي السوري.
يضاف إلى ذلك أن الوضع الاقتصادي التركي لا يسمح برعاية 25 مليون نسمة، يرزحون تحت وطأة أزمات اقتصادية متشعبة لفترة ممتدة، وعليه، فإن المدعين الجدد للسلطة في سوريا، سيتجاوزون سريعاً فترة شهر العسل الراهنة خلال الشهرين المقبلين، ليصطدموا بواقع "العزلة الاقتصادية" المرير.