الوقت - في حين تلتهم نيران الحرب أغلب الشريط الحدودي الجنوبي للبنان، وتتصاعد وتيرة المواجهات يوماً بعد يوم متخذةً أبعاداً جديدةً، يرى الدبلوماسيون أن شعلة مفاوضات وقف إطلاق النار لم تنطفئ بعد، وأنهم نجحوا في الإبقاء على جذوتها متقدةً.
ففي تطور لافت، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، نقلاً عن مصادر إقليمية وأمريكية رفيعة المستوى، عن قرب التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، مع إماطة اللثام عن بعض ملامحه الرئيسية.
ووفقاً لما أوردته الصحيفة، فإن الاتفاق المرتقب يتضمن هدنةً مؤقتةً تمتد لستين يوماً، يُفترض خلالها أن ينسحب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني شمالاً.
وأفادت "نيويورك تايمز"، على لسان مسؤولين أمريكيين، بأن الكيان الصهيوني يبدو أكثر ميلاً لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار على الساحة اللبنانية، مقارنةً بنظيرتها في غزة.
وكشفت الصحيفة، نقلاً عن مصادرها في الإدارة الأمريكية، أن الكيان الصهيوني يرى في إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، المسلك الأيسر لإعادة المستوطنين إلى شمال الأراضي المحتلة، وفي ضوء ذلك، يعقد المفاوضون آمالاً عريضةً على صمود الهدنة المؤقتة طوال الستين يوماً المقررة، تمهيداً لتحويلها إلى وقف دائم لإطلاق النار خلال فترة حكم ترامب المرتقبة.
وأماطت الصحيفة اللثام عن تضمين الاتفاق آليةً مستحدثةً تحت المظلة الأمريكية، تكفل ضمان انحسار قوات حزب الله وقوات الكيان الصهيوني خارج النطاق الحدودي.
وفي تطور لافت، أوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية أن التقديرات داخل الأوساط الإسرائيلية، تُرجح الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان في غضون الأيام القليلة المقبلة، مع تبقي بعض النقاط التفصيلية العالقة.
غير أن هذه التقديرات المفعمة بالتفاؤل تتناقض جذرياً مع التصعيد الميداني الخطير، حيث صعّدت قوات الاحتلال من غاراتها الجوية العنيفة على مناطق متفرقة في العاصمة بيروت وضاحيتها، وفي اعتراف صريح، أقر جيش الاحتلال باستئناف استخدام القنابل الخارقة للتحصينات، بينما وثّق شهود عيان استخداماً مكثفاً للذخائر المحملة بالفوسفور الأبيض في قصف المناطق الحدودية.
وفي الجانب الآخر، وبالتزامن مع إعلان الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في خطاب متلفز يوم الأربعاء الماضي، عن تقديم المقاومة رؤيتها حيال الاتفاق المقترح - مشترطةً وقف كل الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والحفاظ على سيادته - تكشف التقارير عن مساعٍ حثيثة للجيش الصهيوني لإقامة منطقة عازلة خالية من السكان على امتداد الشريط الحدودي.
وفي هذا المضمار، كشف هاشم حيدر، رئيس مجلس الجنوب المكلف من قبل الحكومة اللبنانية بحصر الأضرار الناجمة عن العدوان، في تصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية، عن حجم الدمار الهائل الذي طال 70% من القرى اللبنانية الثماني عشرة الممتدة على طول 120 كيلومتراً، ما أسفر عن تدمير ما يربو على 45 ألف منزل.
تبرز قرية "ميس الجبل" كإحدى المناطق الاستراتيجية في هذا النطاق الجغرافي الحساس، وقد أفصح السيد عبد المنعم شقير، رئيس بلديتها، عن المخطط الإسرائيلي الرامي إلى تحويل الشريط الحدودي إلى أرض محروقة من خلال عمليات التدمير الممنهجة.
وفي سياق متصل، كشفت وكالة الأنباء الفرنسية عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بقرية محيب المجاورة، حيث طال الخراب ما يزيد على 84% من نسيجها العمراني.
ويقدم العميد المتقاعد حسن جوني، في تحليله لصحيفة "العربي"، رؤيةً حول الأهداف الإسرائيلية بعيدة المدى، فهو يرى أن سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها "إسرائيل"، والمتمثلة في تدمير القرى الحدودية وإحراق الغطاء النباتي والأراضي الزراعية، تهدف إلى تعزيز قدراتها الاستخباراتية والرقابية على طول الخط الحدودي.
في المقابل، يتمسك الجيش الإسرائيلي بخطاب مغاير، متذرعاً بضرورة تفكيك شبكة الأنفاق التابعة لحزب الله في المناطق الحدودية، وخاصةً في محافظة النبطية، دون الإقرار بالأجندة الخفية وراء التدمير الممنهج للبنية التحتية والموارد الطبيعية في المنطقة.
ورغم المحاولات الإسرائيلية المتكررة، إلا أن المقاومة الباسلة لمقاتلي حزب الله قد حالت دون تحقيق أي اختراق استراتيجي أو تثبيت للاحتلال العسكري، فكل محاولة توغل إسرائيلية تُقابل بهجمات مضادة فعالة تجبر قوات الاحتلال على التقهقر، كما تجلى ذلك بوضوح في المعارك الضارية الأخيرة حول السيطرة على قرية الخيام.
إن هذا النمط من العمليات العسكرية الإسرائيلية، يكشف بجلاء عن تجاهل صارخ لشروط حزب الله فيما يخص أي هدنة محتملة، وعليه، فإنه في الوقت الذي تروّج فيه الدوائر الإسرائيلية لتفاؤل مصطنع حول إمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تأتي الممارسات العدوانية لجيش الاحتلال في جنوب لبنان، لتنسف أي آمال حقيقية في تحقيق مثل هذا الاتفاق في المدى المنظور.
سيناريوهان
في خضم هذا المشهد الجيوسياسي المتقلب، تتبلور رؤيتان متمايزتان تسعيان لتفسير التناقضات الجلية في الموقف الإسرائيلي-الأمريكي.
الرؤية الأولى تكشف النقاب عن استراتيجية دقيقة تتمحور حول ما تُسمى "المصالحة"، وهي في حقيقتها محاولة لإعادة رسم خارطة القوى الإقليمية، هذه الاستراتيجية، التي تروج لها الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية، تستند إلى ثلاث ركائز أساسية: ضمان الهيمنة العسكرية الإسرائيلية على الحدود، تقويض السيادة اللبنانية من خلال فرض شروط تعسفية، توسيع نطاق النفوذ الغربي في إطار مهام قوات حفظ السلام الأممية (اليونيفيل).
في هذا السياق، يقدّم كينيث روث، الخبير البارز في مجال حقوق الإنسان، تحليلاً للمناورات الدبلوماسية الإسرائيلية، فهو يرى أن تل أبيب تسعى لفرض معادلة غير متكافئة، تُلزم حزب الله بضبط النفس، بينما تحتفظ "إسرائيل" بحق شن هجمات دورية، ويصف روث هذا النهج بأنه "اتفاق أحادي الجانب" لا يرقى إلى مستوى وقف حقيقي لإطلاق النار.
أما الرؤية الثانية فتلقي الضوء على الديناميكيات السياسية الداخلية والخارجية التي تحكم تحركات نتنياهو، فعلى الرغم من استحالة قبول الشروط الإسرائيلية المجحفة، يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي جاهدًا لتصوير نفسه كداعية للسلام، وهذا التكتيك يأتي استجابةً لضغوط متعددة الأوجه:
الضغط الأمريكي: كشفت صحيفة واشنطن بوست عن تحذير صريح من ترامب لنتنياهو بضرورة إنهاء الصراع قبل الانتخابات الأمريكية المقبلة.
التهديد القانوني الدولي: إعلان المحكمة الجنائية الدولية عن نيتها توجيه اتهامات لنتنياهو وغالانت، شكّل صدمةً للقيادة الإسرائيلية.
تصدّع التحالفات الغربية: إعلان بعض الحلفاء الغربيين دعمهم لتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية، يمثّل تحولاً دراماتيكيًا في المشهد الدبلوماسي.
في ضوء هذه التحديات المتشابكة، يبدو أن نتنياهو يتبنى استراتيجيةً مزدوجةً عبر إظهار الاستعداد للتفاوض، مع السعي في الوقت ذاته للحصول على ضمانات أمنية صارمة، والهدف النهائي من هذه المناورة، هو تهيئة الساحة لتحميل المقاومة مسؤولية أي فشل دبلوماسي محتمل، وخاصةً إذا رفضت بيروت الإذعان للشروط الاستعمارية المفروضة من قبل المحور الأمريكي-الإسرائيلي.
وفي خضم هذه الأحداث، يبرز رأي ثانٍ يصوّر الكيان الصهيوني في حالة تخبط مستميت للنجاة من أتون الحرب، ساعياً لتحقيق الحد الأدنى من المكاسب على الصعيدين السياسي والدبلوماسي.
وفي هذا السياق، يبدو أن الأمريكيين، إدراكاً منهم لعجز الآلة العسكرية الصهيونية عن إلحاق الهزيمة بحزب الله، قد راعوا في مبادرتهم الجديدة لوقف إطلاق النار اعتبارات الحكومة اللبنانية والمقاومة، أما تحركات جيش الاحتلال في القرى الجنوبية اللبنانية، فتُفسَّر على أنها محاولة لاكتساب أوراق ضغط في المفاوضات المرتقبة.
وفي تقرير لافت، كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن الضغوط الهائلة التي يواجهها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لإعادة عشرات الآلاف من النازحين الإسرائيليين إلى مناطقهم في الشمال، بيد أن المسؤولين الصهاينة أقروا بأن هلع المستوطنين من هجمات حزب الله المتواصلة، يشكّل عائقاً أمام عودتهم، مؤكدين أن اتفاق وقف إطلاق النار وحده، كفيل بوضع حد للهجمات الصاروخية اليومية على شمال الكيان المحتل.
وفي ظل تصاعد الضغوط من قبل المستوطنين النازحين والقلة الباقية في المناطق الشمالية، سلطت وسائل الإعلام العبرية الضوء في الآونة الأخيرة على الكابوس المستمر، وحالة اليأس والإحباط التي تعتري المستوطنين في الشمال.
وأكدت هذه التقارير أن السكان يعيشون في دوامة من صفارات الإنذار والصواريخ والطائرات المسيّرة، مضطرين باستمرار للاحتماء في الملاجئ.
وفي هذا الصدد، نقل "روعي كايس"، مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، صورةً قاتمةً للوضع، قائلاً: "إن غالبية الإسرائيليين المقيمين في المستوطنات غير المُخلاة في مناطق الجليل الغربي الشمالية، بما فيها نهاريا وعكا وحتى كريوت والكرمل، يعيشون في حالة دائمة من الذعر والتأهب، دون أن يلوح في الأفق أي بصيص أمل لنهاية هذا الوضع المأساوي".
وفي شهادة علی هذا الوضع، صرح أحد المستوطنين لمراسل يديعوت أحرونوت قائلاً: "نحن نعيش في معاناة لا تنقطع، حتى أن الكلاب هنا باتت تلوذ بالملاجئ من تلقاء نفسها".
لقد أضحت التحذيرات والهرولة إلى الملاجئ، جزءاً لا يتجزأ من نسيج حياتهم اليومية، ويظل السؤال الملح يؤرقهم: متى سيسدل الستار على هذا الكابوس المرعب؟
في مستجدات المشهد الراهن، تتوالى المؤشرات الكاشفة عن تحولات جوهرية في المزاج العام الإسرائيلي، حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة ارتفاعاً لافتاً في نسبة المطالبين بإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع حزب الله، الأمر الذي يُشكّل انتكاسةً استراتيجيةً للحملة العسكرية التي تقودها حكومة نتنياهو الحربية، وتجلّت هذه التحولات في ارتفاع نسبة المؤيدين للحل السياسي مع لبنان إلى 57%، بزيادة ملحوظة بلغت 12% مقارنةً بالأسبوع المنصرم.
وفي سياق متصل، تتفاقم الأزمة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحت وطأة الضغط العسكري المتصاعد لحزب الله، ما يجعل تل أبيب في أمسّ الحاجة لاتفاق وقف إطلاق النار، متجاوزةً في ذلك حاجة الجانب اللبناني. وفي هذا المضمار، كشف الموقع الأمريكي "أكسيوس" في تقرير استقصائي عن أزمة غير مسبوقة تعصف بالوحدة النخبوية 8200، حيث وصفها ضباط استخبارات سابقون بأنها الأشدّ خطورةً في تاريخ هذه الوحدة.
وفي تطور موازٍ، سلّطت صحيفة "معاريف" العبرية الضوء على أزمة عميقة تضرب لواء جولاني، العمود الفقري للقوات البرية الإسرائيلية، حيث تكبّد خسائر فادحة بلغت 110 قتلى منذ السابع من أكتوبر 2023، مسجّلاً بذلك أعلى معدل خسائر بين كل ألوية المشاة، وفي هذا السياق، حذّر غابي أشكنازي، المحلل العسكري في الكيان الصهيوني، من تداعيات هذه الخسائر غير المسبوقة في لواءٍ يُعدّ خطاً أحمر للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وتضاف إلى هذا المشهد المأزوم الضربات النوعية المتقدمة التي ينفذها حزب الله، مستخدماً منظومات تسليحية متطورة، ما منح المقاومة تفوقاً استراتيجياً ملموساً في الميدان، ولعل أبرز تجليات هذا التفوق، تمثّلت في العملية المركبة النوعية التي استهدفت عمق تل أبيب على بُعد 110 كيلومترات من الحدود، مستخدمةً مزيجاً من الصواريخ والطائرات المسيّرة، واستهدفت مقر الوحدة 8200، في رسالة حاسمة للوسيط الأمريكي في خضم مباحثات وقف إطلاق النار.
وإلى جانب القدرات الدفاعية الفائقة لمقاتلي المقاومة في صدّ العدوان الصهيوني، تبرز القدرات الهجومية المتنامية عبر تكريس معادلة "حيفا مقابل الضاحية وتل أبيب مقابل بيروت"، وعليه، فإن لبنان ليس الطرف الأكثر احتياجاً للتفاوض، بل إن حزب الله قد لا يُعير اهتماماً يُذكر للمفاوضات الراهنة، معتبراً إياها مناورةً سياسيةً صهيونيةً تستهدف إحداث شرخ في النسيج اللبناني، واختبار صلابة إرادة المقاومة في هذه المواجهة المصيرية.