الوقت - لقد أماط انتشار الصور الموثّقة لفظائع التعذيب والانتهاكات الجنسية المرتكبة بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الكيان الصهيوني، اللثام مجدداً عن وجه آخر من أوجه الجرائم البشعة التي تُقترف في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هذه الجريمة النكراء تجاوزت في بشاعتها حدود اغتصاب الأرض، لتطال بوحشيتها أرواح وأجساد الفلسطينيين، مُسجِّلةً فصلاً جديداً من فصول الاحتلالِ، يتجلى فيه الاعتداء السافر على الكرامة الإنسانية واستباحة الحرمات بأبشع الصور.
هذه التسجيلات المسربة أظهرت كيف يتفنن الجنود الصهاينة في إذلال وتعذيب الأسرى الفلسطينيين، بأساليب لا إنسانية تنمّ عن نزعة إجرامية متأصلة، غير أن هذه الحالة ليست معزولةً أو فريدةً، إذ أكدت مؤسسة "بتسيلم" الحقوقية - وهي منظمة إسرائيلية مقرها تل أبيب - في تقرير صادم، أن حالات الاعتداء الجنسي على الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، تتجاوز بكثير هذه الحالة المنفردة.
ففي تحقيق استقصائي موسّع أجرته "بتسيلم"، تم توثيق شهادات ما لا يقل عن 55 فلسطينياً تم اعتقالهم منذ أحداث السابع من أكتوبر، وقد أكدت هذه الشهادات تعرض المعتقلون لممارسات مهينة، وضرب عشوائي وحشي، وحرمان ممنهج من النوم، فضلاً عن استخدام العنف الجنسي بشكل متكرر وبدرجات متفاوتة من الشدة والفظاعة، ما يرقى إلى مستوى جرائم حرب وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
سرد الألم: فصول من التعذيب الممنهج
يروي فادي بيكر، الشاب الفلسطيني البالغ من العمر 25 عاماً، لصحيفة "نيو عرب" قصة معاناته المروعة، قائلاً: كانوا يطفئون السجائر على جسدي، ويضعون مشابك على خصيتيّ مرتبطةً بأثقال، استمر هذا التعذيب الوحشي ليوم كامل، ما أدى إلى تورم خصيتيّ ونزيف حاد في أذني اليسرى، وأضاف: إن احتجاز الأسرى عراةً تماماً في ثلاجات التجميد، كان جزءاً من هذا النهج الإجرامي في التعذيب.
وفي حادثة أخرى مفجعة، لفظ أسير فلسطيني أنفاسه الأخيرة بعد ساعات من إطلاق سراحه في وسط غزة، وقد أفاد شهود عيان بأن هذا الأسير تُرك في حالة يرثى لها، يعاني من إصابات بالغة في منطقة الشرج، وتمزق في الأمعاء، وكسور في الأضلاع، ما يشير إلى تعرضه لانتهاكات جسدية فظيعة.
أما إبراهيم سالم، البالغ من العمر 36 عاماً، والذي أُطلق سراحه مؤخراً بعد ثمانية أشهر من الأسر، فقد صرّح لموقع "ميدل إيست آي" قائلاً: معظم السجناء يُطلق سراحهم وهم يعانون من إصابات في المستقيم (ناتجة عن الاعتداء الجنسي).
وأضاف إنه مع حوالي 100 شخص آخر، تُركوا لمدة ليلتين تحت المطر، مرتدين ملابسهم الداخلية فقط، قبل نقلهم إلى معسكر الاعتقال، وقد تم نقلهم وأيديهم مقيدةً خلف ظهورهم، وأرجلهم مكبلة، وأعينهم معصوبة، وفي الزنزانة، فُكّت قيود أرجلهم لكنهم ظلوا يومين من دون طعام، مع زجاجة ماء صغيرة واحدة موزعة بينهم جميعاً، قبل أن يتم استدعاؤهم واحداً تلو الآخر للاستجواب.
لم تقتصر أصداء الفظائع على تقرير مؤسسة "بتسيلم" الحقوقية وحدها، التي أطلقت صفارات الإنذار حول ممارسات التعذيب في أقبية السجون الإسرائيلية، بل إن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد انضم مؤخراً إلى جوقة المنددين، مسلطاً الضوء في تقرير صادم على مأساة إنسانية ووحشية لا تُصدق، فمنذ السابع من أكتوبر، لقي ما لا يقل عن 53 فلسطينياً حتفهم تحت وطأة التعذيب الشديد في منشآت الاحتلال وسجونه العسكرية، وأضيف إلی ذلك العذاب الجنسي أيضًا.
تواطؤ مع الجريمة وتستر على الفظائع
رغم الادعاءات الواهية بتوقيف بعض العسكريين المتورطين في الانتهاكات داخل معتقلات الاحتلال، تأتي تصريحات المسؤولين الصهاينة لتفضح حقيقة موقفهم المتواطئ مع هذه الجرائم النكراء.
ياريف ليفين، وزير ما يسمى العدل في حكومة نتنياهو، ينبري مستنكراً توقيف الجنود المتهمين، واصفاً الإجراء بأنه "صادم وغير مقبول"، ويضيف إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، صوته إلى جوقة المدافعين عن المجرمين، مطالباً بـ"الدعم المطلق" للجنود المتهمين، أما إيلي كوهين، وزير الطاقة، فيمعن في الانحدار الأخلاقي، داعياً إلى "احتضان الجنود وتحيتهم، بدلاً من استجوابهم وإذلالهم".
وفي ذروة هذا المشهد المأساوي، يتجرأ أحد الخبراء الصهاينة، خلال مناظرة تلفزيونية، على اقتراح تشريع استخدام الاغتصاب كوسيلة للتعذيب في السجون، هذه المواقف مجتمعةً تكشف النقاب عن مساعٍ محمومة لتطبيع الجريمة وإضفاء غطاء قانوني على الوحشية.
في خضم هذا السيل من الانتهاكات، تبدو إجراءات توقيف بعض الجنود المتهمين، كمحاولة بائسة لاحتواء الفضيحة والحيلولة دون تصاعدها إلى أروقة محكمة لاهاي الدولية، إنها مناورة مكشوفة تهدف إلى تطويق العار وكبح جماح تداعياته الدولية، في سعي محموم لستر حقيقة الجرائم المروعة التي تُرتكب خلف جدران الزنازين الإسرائيلية.
صمت الغرب المتواطئ
في ظل وفرة التقارير الموثقة والأدلة الدامغة التي تكشف عن ممارسات التعذيب الجسدي والجنسي البشعة، التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون على أيدي الصهاينة، يلفت الانتباه غياب أي استنكار دولي لهذه الانتهاكات الصارخة، وما يثير الدهشة والاستغراب، عدم صدور أي إدانة لهذه الأفعال الشنيعة من قبل الساسة الغربيين.
فلم يصدر أي تصريح عن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" أو نائبته "كامالا هاريس"، بينما يلوذ رئيس الوزراء البريطاني "كير ستارمر" بصمت مطبق إزاء هذه القضية، وحتى وسائل الإعلام البريطانية، باستثناء حالات نادرة كصحيفة "الغارديان"، قد آثرت إما التزام الصمت التام تجاه هذه الجرائم، أو الاكتفاء بتغطية مقتضبة لا تفي بفداحة الأمر.
إن هذا الموقف يعكس بجلاء أزمةً قيميةً عميقةً في المجتمع الغربي، حيث لم يعد هناك أي خطوط حمراء أمام الانتهاكات الإسرائيلية، بل وصل الأمر إلى حد التنكر للمواثيق والقوانين الدولية التي وضعوها بأنفسهم، وهذا على الرغم من أن التعذيب في السجون، يعدّ انتهاكاً صريحاً ومحظوراً حتى بموجب اتفاقية فيينا.
التعذيب الممنهج: نهج راسخ في الممارسات الصهيونية
يكشف "جوزيف مسد"، الخبير البارز في الشؤون الفلسطينية، في تقريره الموثق عن حقيقة مروعة، وهي أن الجيش الإسرائيلي قد استخدم بشكل منهجي التعذيب الجسدي والجنسي ضد الفلسطينيين منذ عام 1967 على الأقل.
هذه الممارسات البشعة، التي طالما نبهت إليها منظمات حقوق الإنسان منذ عقود، ليست وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث وُثقت أعمال السادية والاعتداءات الصهيونية ضد الفلسطينيين.
إن هذه الممارسات السادية، التي غالباً ما تقترن بالتعذيب الجنسي، تنبع من عقلية استعمارية متغطرسة متأصلة في الفكر الغربي، هذه العقلية، التي تنظر بازدراء إلى العرب وتدّعي أنهم لا يفهمون سوى لغة القوة، قد تبناها الصهاينة بحذافيرها، مصرين على استخدام العنف ضد الفلسطينيين دون أي مبرر منطقي، متبعين في ذلك نهج داعميهم الغربيين، ويشكّل هذا النهج الاستعماري العدواني، حجر الزاوية في فهم طبيعة الاحتلال والجرائم الإسرائيلية المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.