الوقت - بينما كان الشعب الروسي في احتفال سياسي، حيث بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية (17 مارس/آذار) 73%، كان الحادث الإرهابي الذي وقع في موسكو سبباً في شعور الروس بالمرارة.
ليلة الجمعة الماضية، دخل أربعة مسلحين إلى قاعة الحفلات الموسيقية "كروكوس" في قاعة المدينة في موسكو، وفتحوا النار على الحاضرين هناك، وقام المهاجمون بتغطية وجوههم، وارتدوا سترات مضادة للرصاص، وبعد الهجوم المسلح وإطلاق النار على الجمهور في قاعة الحفلات الموسيقية، غادروا المكان ولاذوا بالفرار، واستخدم المهاجمون أسلحة آلية، قيل إنها أعدت مسبقاً في أحد المستودعات.
وأعلنت لجنة التحقيق الروسية في بيان لها، أن 115 شخصاً قتلوا في هذا الحادث حتى الآن، ويتلقى حالياً 107 من المصابين العلاج في المستشفيات، وبعضهم في حالة خطيرة، وهناك احتمال أن ترتفع حصيلة القتلى.
وتظهر الصور ومقاطع الفيديو التي تم نشرها لهذا العمل الإرهابي، أن الحاضرين في الحفل يستلقون على الأرض لمدة عشرين دقيقة، ثم يركضون إلى الخارج بعد أن تهدأ الأوضاع.
ونشرت وزارة حالات الطوارئ الروسية صوراً لإزالة أنقاض قاعة الموسيقا كروكوس، حيث دمرت قاعة الجمهور بالكامل وأحرقت، وتتسع هذه القاعة لـ 9500 شخص، وأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإجراء تحقيق في حادثة قاعة كروكوس.
بعد الهجوم الإرهابي في كروكوس، أعلن عمدة موسكو، سيرجي سوبيانين، أنه تم إلغاء جميع الأحداث الرياضية والثقافية والعامة في موسكو خلال عطلة نهاية الأسبوع، بسبب الهجوم الإرهابي، وشددت روسيا أيضًا الإجراءات الأمنية في المطارات والمحطات وفي جميع أنحاء العاصمة، وهي منطقة مترامية الأطراف تضم أكثر من 21 مليون شخص.
الشرطة تبحث عن الإرهابيين
بعد الحادث الإرهابي، ذكرت إدارة شرطة موسكو في بيان لها، أن الإرهابيين الذين شاركوا في الهجوم على كروكوس فروا بسيارة، وأعلنت أن ضباط الشرطة يبحثون عن سيارة رينو بيضاء اللون تحمل لوحة ترخيص مقاطعة تفير أوبلاست الروسية، وبعد ساعات من الهجوم الإرهابي في موسكو، تم إيقاف هذه السيارة على بعد 376 كيلومتراً من طريق كييف السريع في مقاطعة بريانسك، بالقرب من الحدود مع أوكرانيا.
وتم القبض على أحد الأشخاص فور إيقاف السيارة، وهرب باقي ركاب سيارة الرينو إلى الغابة إلا أن الشرطة تمكنت من القبض على منفذي الهجوم الإرهابي الآخرين بعد ساعتين من البحث.
وقالت قوات الأمن التابعة للشرطة: إن الإرهابيين كانوا يخططون للهروب من الحدود الأوكرانية، وكانوا على اتصال بالجانب الأوكراني.
وبالإضافة إلى منفذي حادث إطلاق النار على كروكوس، تم القبض على 11 شخصًا آخرين للاشتباه في تعاونهم مع الإرهابيين، وقال الكرملين إن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي سيحاول التعرف على أولئك الذين تعاونوا وتآمروا مع الإرهابيين لتنفيذ هذا الهجوم.
وادعى أحد المهاجمين المعتقلين أنه تلقى أوامر من قادته بقتل جميع الحاضرين في الحفل، وجاء هذا الإرهابي إلى موسكو قادماً من تركيا في 4 مارس.
أصابع الاتهام تجاه الغرب وكييف
أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته رسميًا عن الهجوم الإرهابي على قاعة الحفلات الموسيقية، من خلال نشر بيان في وسائل الإعلام التابعة له.
كما قال مسؤول أمريكي: إن واشنطن حصلت على معلومات، تؤكد تورط تنظيم "داعش خراسان" في الهجوم على قاعة الحفلات الموسيقية في موسكو، لكن المتحدث باسم لجنة التحقيق الروسية، أعلن أنه لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن مصير وهوية منفذي الهجوم.
وحسب مسؤولين في الكرملين، فإن الغرب وأوكرانيا يقفان وراء هذه الجريمة، وتجب محاسبتهما على هذه القضية، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: إن رد السلطات الأمريكية على الهجوم الإرهابي الذي وقع في قاعة مدينة كروكوس، يثير تساؤلات كبيرة، وخاصةً حول سبب ادعاء البيت الأبيض أن أوكرانيا لم تكن متورطةً.
وطلبت روسيا من المجتمع الدولي إدانة هذه الجريمة، لكن الغرب لم يتفاعل كثيراً مع الحادث، وقال جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض: "نعرب عن تعاطفنا مع ضحايا هذا الهجوم المروع، هذه الصور فظيعة ويصعب رؤيتها"، كما أعرب الاتحاد الأوروبي عن أسفه لهذا العمل الإرهابي.
السبب الرئيسي وراء إلقاء الروس اللوم على الغرب في هذا الحادث الإرهابي، هو البيان الأخير الصادر عن السفارة الأمريكية في روسيا، والذي حذّر المواطنين الأمريكيين في 8 مارس من احتمال وقوع أعمال إرهابية في روسيا، وطلب منهم الامتناع عن التواجد في الأماكن العامة خلال 48 ساعة.
وطلب قادة الكرملين من واشنطن توضيح ذلك، وإذا كانت لديها معلومات بهذا الشأن، فلماذا لم تبلغ روسيا بالقضية، وعلى الرغم من أن البيت الأبيض قال إن التحذير لا علاقة له بالهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الجمعة، وإنه صدر قبل بضعة أسابيع، إلا أن قادة الكرملين غير مقتنعين.
وقال مستشار رئيس أوكرانيا أيضًا إن هذا البلد لا علاقة له بالهجوم على قاعة الحفلات الموسيقية في موسكو، کما زعم جهاز المخابرات الأوكراني في بيان له، أن هذا العمل الاستفزازي والمتعمد نفذته القوات الخاصة الروسية.
وحذّر دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، من أنه إذا ثبت تورط أوكرانيا في الهجوم، فإن موسكو ستدمر زعماء كييف، ويعتقد الروس أن أوكرانيا تحاول الإضرار بالأمن القومي للبلاد بمثل هذه الهجمات الإرهابية، بسبب هزيمتها في ساحات القتال.
دوافع الغرب للتخطيط للهجوم الإرهابي في موسكو
رغم أن الولايات المتحدة وأوكرانيا نفتا أي تورط لهما في الهجوم الإرهابي في موسكو، إلا أنهما تستفيدان من وقوع مثل هذه الأحداث في روسيا.
وبالنظر إلى أن روسيا في حالة حرب مع أوكرانيا منذ أكثر من عامين، وأن الجيش الروسي أحرز مؤخراً تقدماً في منطقة أفديوكا، فإن الغربيين يشعرون بالقلق بشأن انتصار روسيا المحتمل.
ونظرًا لنقص الأسلحة وارتفاع التكاليف العسكرية، لا يملك أعضاء الناتو القدرة على صدّ الجيش الروسي، ويحاولون ضرب منافسهم من خلال جعل روسيا غير آمنة.
إن تنفيذ الأعمال الإرهابية في جميع أنحاء روسيا، يجعل قوات الأمن تركز على القضاء على هذه التهديدات، وإذا انتشرت هذه التهديدات على نطاق واسع، فسيضطر الجيش إلى استدعاء جزء من قواته من أراضي أوكرانيا لبسط الأمن في الداخل، وهذه فرصة جيدة لحلف شمال الأطلسي للاستفادة الكاملة من تخفيض القوات الروسية.
وهذه المسألة ليست بعيدةً عن الأذهان، في وقت هناك احتمال لإرسال قوات من حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا، وخطر نشوب صراع مباشر بين هذا الحلف العسكري وموسكو.
والنقطة المهمة الأخرى بالنسبة للغربيين الآن، هي خلق فجوة بين موسكو ومسلمي الشيشان، ففي يوليو/تموز من العام الماضي، كان الغربيون يتطلعون إلى تمرد مجموعة ميليشيا فاغنر بقيادة يفغيني بريجوزين ضد الحكومة الروسية، حتى يتمكنوا من تنفيذ مخططاتهم من خلال تعميق الانقسامات بين الروس.
لكن تمرد فاغنر لم يستمر سوى 24 ساعة، وتمكنت موسكو من إدارة هذه الأزمة، وبدلاً من قوات فاغنر، استخدمت روسيا مسلمي الشيشان، واستطاعت تعويض النقص في القوات بإرسال آلاف القوات من هذه المنطقة إلى جبهات أوكرانيا.
تلعب الكتائب الشيشانية دوراً مهماً في نجاحات الجيش الروسي في أوكرانيا، وتحاول الولايات المتحدة تعميق الفجوة بين الميليشيات الإسلامية والجيش الروسي، من خلال الأعمال الإرهابية التي يقوم بها إرهابيو "داعش".
ووفقاً للغربيين، مع خلق الإرهاب من قبل إرهابيي "داعش"، سيتم إنشاء موجة من الإسلاموفوبيا بين الروس، ومع ضغط الرأي العام، تضطر الحكومة الروسية أيضاً إلى اتخاذ إجراءات ضد بعض التيارات المتطرفة المتمركزة في الشيشان، وفي هذه الحالة ستبتعد الكتائب الشيشانية عن الجيش الروسي.
ولذلك، مع انسحاب الشيشان من أوكرانيا وتعميق الفجوة بين الروس والمسلمين، يستطيع الغرب إدارة جبهة الحرب في أوكرانيا بشكل أفضل، وإلحاق الضرر بموسكو.
للصراع بين الشيشان والحكومة الروسية تاريخ طويل، فمنذ عام 1994 وقعت اشتباكات بين الجيش الروسي والميليشيات الشيشانية استمرت قرابة عقد من الزمان، وقُتل فيها آلاف الأشخاص من الجانبين.
وفي عام 2002، احتجز المقاتلون الشيشان 912 رهينة في مسرح دوبروفكا بموسكو، وطالبوا بانسحاب القوات الروسية من الشيشان، وليس من المستبعد أن يتكرر مثل هذا الصراع بين موسكو والشيشان.
ومن ناحية أخرى، فإن إرهابيي "داعش" الذين نفذوا عمليات في موسكو، حسب الأمريكيين، مرتبطون بفرع خراسان لتنظيم "داعش" في أفغانستان، ومن المرجح أن يستخدم الغربيون هذه المجموعة لجعل الحدود الجنوبية لروسيا غير آمنة.
منذ أن هاجمت أمريكا أفغانستان عام 2001، كان هدفها الأكبر هو الاقتراب من حدود روسيا بحجة الأمن، والتمكن من مراقبة تحركات هذا الخصم، وإنشاء قاعدة في جمهوريات آسيا الوسطى بذريعة مواجهة الإرهابيين، كان جزءاً من هذا الهدف.
تنظيم "داعش" فرع أفغانستان، الذي بدأ نشاطه بدعم من الولايات المتحدة عام 2015، بعد الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021، استغل الفراغ الأمني الذي خلقه الانسحاب لتعزيز نفسه، ونظّم العشرات من الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء أفغانستان.
ووصف الروس انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان بأنه مثير للقلق، وفي الوقت نفسه، انتقد بوتين احتلال الغرب لأفغانستان المستمر منذ 20 عاماً، وقال: "لا ننفي مرور عناصر "داعش" الإرهابية إلى حدود الدول المجاورة لأفغانستان".
وذكرت بعض المصادر العام الماضي أن الولايات المتحدة تتطلع إلى تعزيز جماعة "داعش" الأفغانية، لاستخدامها للضغط على حكومة طالبان المؤقتة، وضد المنافسين الإقليميين.
إن دخول إرهابيي "داعش" إلى آسيا الوسطى، الذين يميلون إلى جذب المتطرفين، سوف يدفع روسيا إلى إرسال جزء من قواتها الأمنية لمحاربة الإرهابيين، وبالتالي، سينخفض التركيز على الجبهة الأوكرانية.
کما أن انسحاب القوات من أوكرانيا للتغلب على الأزمات الداخلية وانعدام الأمن، سيكون له تأثير سلبي على معنويات جنود الجيش الروسي، وستكون المعركة في أوكرانيا صعبةً على الروس، وهذا هو السيناريو الذي تركز عليه أمريكا والأوروبيون، حتى يتمكنوا من إضعاف روسيا بمرور الوقت ومن خلال المسار التآكلي للحرب.
لقد أثبتت روسيا أنها، رغم الصراع الدائر على الجبهة الأوروبية، تعرف كيف تدير الأزمات الداخلية ولا تقدّم الأعذار للغربيين، وكما اجتازت تمرد فاغنر دون تكلفة، فإنها لن تسمح هذه المرة أيضًا للغربيين باستخدام أدوات الإرهاب للاصطياد في المياه العکرة، وجعل هذا البلد غير آمن.