الوقت- أثرت أزمة وباء كورونا والتطورات العالمية في السنوات الثلاث الماضية على كثير من اقتصادات العالم، وفي غضون ذلك عانت بعض الدول من هذا الوضع أكثر من غيرها. ولقد مرت تركيا بظروف اقتصادية صعبة في عام 2022، حيث وصلت قيمة الليرة مقابل الدولار إلى أدنى مستوى لها في العقد الماضي، واجتاحت معدلات التضخم الهائلة اقتصاد البلاد. ومع ذلك، في الأشهر الأخيرة، انتقل الوضع نحو التحسن النسبي. ووفقًا للإحصاءات التي أعلنتها الحكومة التركية مؤخرًا، بلغ معدل التضخم السنوي في البلاد 64.27٪ في ديسمبر الماضي، وبالمقارنة مع معدل 84.39٪ المعلن في نوفمبر، فقد انخفض بنحو 20 نقطة مئوية. وهذا هو الشهر الثاني على التوالي الذي يشهد فيه معدل التضخم السنوي انخفاضًا بعد أن وصل إلى ذروته عند 85.5 في المئة في أكتوبر الماضي، وهو أمر غير مسبوق خلال الـ 24 عامًا الماضية؛ وحسب خبراء الإحصاء الاقتصادي، فقد تأثر الانخفاض بشكل كبير بتغيير الأساس لحساب معدل التضخم السنوي. إلا أن بعض النقاد الاقتصاديين يعتقدون أن حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعلن أن معدل التضخم أقل مما هو عليه، وحسب هؤلاء فإن التضخم في البلاد بلغ 135٪ في شهر ديسمبر.
ويعتقد أردوغان أن زيادة معدل التضخم في تركيا تأثرت بالحرب في أوكرانيا، لكن منتقديه يرون أنه بغض النظر عن تأثير العمليات العسكرية الروسية على أراضي أوكرانيا، فإن ضغوط الرئيس التركي على البنك المركزي خفض سعر الفائدة من 19 إلى 10.5 في المئة في الوقت نفسه الذي انخفض فيه سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي والذي أدى إلى تفاقم معدل التضخم.
وتشير إحصاءات اقتصادية أخرى معلن عنها إلى اتجاه تنازلي، ووفقا للبيانات الرسمية، ارتفع معدل التضخم الشهري بنسبة 1.2 في المئة في ديسمبر، وهو أقل من المعدل الشهري البالغ 2.9 في المئة في نوفمبر. من ناحية أخرى، ارتفع الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 1.018 في المئة في ديسمبر مقارنة بالشهر السابق، ونما الاقتصاد بنسبة 3.9 في المئة في الربع الثالث من عام 2022. وفي أواخر عام 2022، وصلت الليرة إلى مستوى منخفض جديد، وفقدت 30 في المئة أخرى من قيمتها، لكنها ظلت ثابتة إلى حد كبير في الشهرين السابقين حتى نهاية العام.
زيادة الصادرات بسبب الأزمة في أوكرانيا
على الرغم من ارتفاع ذروة الأزمة الاقتصادية في تركيا في بداية عام 2022، لكن الحرب في أوكرانيا وتخفيض قيمة الليرة انتهت لصالح أنقرة. ووصلت صادرات تركيا إلى مستويات قياسية العام الماضي، حيث أدى انخفاض قيمة الليرة إلى جعل المنتجات التجارية أكثر تنافسية في الخارج، واستفادت أنقرة أيضًا من توثيق العلاقات الاقتصادية مع روسيا بعد الأزمة الأوكرانية. ولقد قال أردوغان، في كلمة متلفزة ، "سجلت تركيا زيادة بنسبة 13 في المئة في الصادرات، وستصل قيمتها إلى 254 مليار دولار في عام 2022". ووصف أردوغان زيادة العمالة والصادرات في ظل الأزمة التي يشهدها العالم بأنها من الإنجازات المهمة لحكومته التي استطاعت إدارة الأزمات.
وبعد بدء العقوبات الغربية ضد روسيا، حاولت تركيا استبدال الدول الأوروبية في السوق الروسية ونجحت إلى حد ما وتمكنت من زيادة حجم تجارتها مع موسكو. ويمكن أن تساعد زيادة الصادرات في الوقت الحالي في زيادة الإيرادات الحكومية وتعزيز مكانة أردوغان السياسية عشية الانتخابات. وعلى الرغم من زيادة صادرات تركيا في عام 2022، إلا أنه بسبب انخفاض قيمة الليرة، وصلت واردات البلاد إلى 364.4 مليار دولار، أي قفزة بنسبة 34٪، وبعبارة أخرى تظهر عجزًا تجاريًا قدره 110 مليارات دولار، ما يدل على أن الطريق ما زال طويلاً لتعويض هذا العجز.
النظرة الاقتصادية المظلمة
قدم أردوغان، الذي يتنافس على الانتخابات الرئاسية في الأشهر القليلة المقبلة، بعض الحوافز الاقتصادية من أجل استقطاب الرأي العام. وكانت زيادة رواتب الموظفين والعمال ورفع الحد الأدنى لسن التقاعد من بين هذه الأمور التي لقيت الترحيب. ومع ذلك، فإن زيادة رواتب الموظفين والعاملين في مثل هذا الوضع الاقتصادي الفوضوي يمكن أن يكون مكلفًا للحكومة، لأنه وفقًا للخبراء، فإن الزيادة في الإنفاق الحكومي إذا لم يكن هناك دخل بديل سيؤدي إلى إفراغ الميزانية الحكومية وزيادة معدل التضخم في الدولة. ويحذر هؤلاء المحللون من أن موجة تدابير الحماية الاجتماعية الشعبوية التي أعلنها أردوغان قبل الانتخابات ستؤدي إلى زعزعة استقرار السياسات الاقتصادية الحالية.
وعلى الرغم من ادعاء أردوغان أن الوضع الاقتصادي سوف يتحسن في المستقبل القريب بسبب السكك الحديدية الجديدة للحكومة، إلا أن البعض متشكك. ويعتقد الخبراء أن تركيا ستواجه توقعات اقتصادية صعبة للغاية بعد الانتخابات، حيث إن مزيج السياسة الحالي كارثي. وقال "جي بي مورجان" إن ارتفاع الأجور سيعزز النشاط الاقتصادي في الربع الأول من عام 2023، ومن المتوقع أن ينمو الإنتاج بمعدل سنوي يبلغ 7.8٪، لكن "جيه بي مورجان" قال، إن الإجراءات الاقتصادية غير التقليدية للحكومة "غير مستدامة" وأن التضخم سيزيدها سوءًا.
ووفقًا للاتجاه النزولي للتضخم وخفض الأسعار بناءً على التوقعات الاقتصادية متوسطة المدى، تتوقع أنقرة تضخمًا بنسبة 24.9٪ حتى نهاية عام 2023، لكن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن تركيا تستطيع خفض التضخم إلى 44٪ في أفضل الأحوال.
لقد تمكن أردوغان، الذي كان على رأس السلطة في تركيا منذ عقدين من الزمان، من تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد في العالم خلال فترة رئاسته للوزراء، وفي بعض المجالات، مثل جذب السياح والصناعة الزراعية، وأصبحت تركيا من أفضل 10 دول العالم، ولكن في السنوات الثلاث الماضية، سارت سياساته الطموحة جنبًا إلى جنب مع الأزمة العالمية لجعل الاقتصاد التركي ينهار.
وجاء الوضع الاقتصادي الفوضوي لتركيا في العام الماضي بينما في السنوات الأخيرة استثمرت المشيخات العربية في الخليج الفارسي عشرات المليارات من الدولارات في هذا البلد، وقطر نفسها استثمرت حاليًا 23 مليار دولار في هذا البلد و 10 مليارات دولار مخطط لمساعدة أنقرة في الأشهر المقبلة. لكن يبدو أن هذه المساعدات لم يكن لها تأثير كبير على تحسين الوضع في تركيا. وإذا استمر الوضع الاقتصادي في تركيا بالطريقة نفسها، فربما يعيد السعوديون النظر في الخمسة مليارات دولار التي سيخصصونها لهذا البلد.
وضع أردوغان المهتز في الانتخابات
على الرغم من التحسن النسبي للاقتصاد التركي وبعض الحوافز الاقتصادية للحكومة عشية الانتخابات الرئاسية، إلا أن الوضع السياسي غير مواتٍ لأردوغان، ولا تزال فرصه في الاحتفاظ بمقعده الرئاسي أقل. ويحاول أردوغان الفوز بالرئاسة للولاية الثالثة على التوالي، ولتحقيق هذا الهدف، فعّل دبلوماسيته في العام الماضي لتمهيد الطريق للرئاسة من خلال إعادة العلاقات مع الجيران ودول المنطقة. وتطبيع العلاقات مع مشيخات الخليج الفارسي والنظام الصهيوني وهذه الأيام يحاول استئناف العلاقات مع سوريا بعد 11 عامًا من التوتر وهذا الامر يظهر أن أردوغان ليس مستعدًا للتراجع ببساطة أمام منافسيه ويحاول تحسين سجل سياسته الخارجية لتقوي عشية الانتخابات.
وعلى الرغم من أن إدارة أردوغان الجيدة للأزمة الأوكرانية وتقوية الدبلوماسية مع جيرانه قد رفع مكانته السياسية إلى حد ما، إلا أنه لا يزال أمامه طريق طويل لجذب الرأي العام. وحسب استطلاعات الرأي، فإن أردوغان يعاني من مشاكل سياسية خطيرة بسبب تأييده 30٪ فقط. وحسب نتائج الاستطلاع، إذا تم تمديد الانتخابات الرئاسية التركية إلى الجولة الثانية، فإن أردوغان سيخسر أمام أربعة مرشحين محتملين. وحسب مراقبين، فقد أوصل أردوغان الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة إلى الهاوية وجعل الطبقة الوسطى أفقر، ويمكن أن تنتهي هذه القضايا بإلحاق الضرر به في العملية الانتخابية. وعلى الرغم من أن تركيا حاولت مؤخرًا إظهار أنها عادت من سياساتها السابقة وتسعى إلى تخفيف التوترات مع دول المنطقة، إلا أنه بالنظر إلى تجربة طموحاته في العقد الماضي، لا يثق القادة الإقليميون كثيرًا في استقرار المنطقة ومواقف أردوغان، ومراقبون يرون أن هذا قد يكون خطوة تكتيكية للفوز بالانتخابات وسيعود الوضع إلى الماضي بعد الانتخابات.
على أي حال، أردوغان سيحاول تغيير الوضع لصالحه في الأشهر المقبلة، والخيار الوحيد المتبقي له الآن هو تطبيع العلاقات مع سوريا، وهو ما هو مستعجل لتحقيقه، حتى يتمكن من تعزيز علاقاته. وعودة اللاجئين السوريين، نال الكثير من القبول لنفسه وحتى لو مهدت دمشق الطريق للتطبيع في هذه الفترة القصيرة من الزمن، فلا يزال لدى الخصوم الانتخابيين أوراق يلعبونها، ونفوذ أردوغان الاقتصادي والتوتر في المنطقة على مدى العقد الماضي كافيان لإعادته وحكومته إلى الأرض.