الوقت- لطالما بنت أمريكا سياستها الخارجيّة على عنصرين رئيسيين، الإقتصاد و العسكر؛ فلو طالعنا سياسة واشنطن الخارجية منذ التأسيس نذعن لإرتهانها لهذين العاملين الرئيسيين. وعند مطالعة الحروب الأمريكية نرى أنها تعمد إلى إستخدام هذين السلاحين بحدّيهما؛ الأول لتعزيز قدراتها في مواجهة الأعداء، و الثاني لإضعاف الأعداء و الحلفاء إذا إقتضى الامر ذلك.
فالحروب الامريكية بدءاً بالحرب العالمية الأولى و الثانية، مروراً بالفيتنام و الحرب الباردة مع الإتحاد السوفياتي وصولاً إلى أفغانسان و العراق، هدفت لكسر الأعداء سواءً عبر الهجوم العسكري أو عبر الحصار الإقتصادي، كما هو الحال مع روسيا و الجمهورية الإسلامية الإيرانية. و لكن لا يمكن حصر المواجهة الأمريكية بالأعداء، بل يمتلك الحلفاء أيضاً حصّة كبيرة من التهديد الأمريكي، فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت واشنطن من أكثر الدول مخالفةً لتأسيس الإتحاد الأوروبي، كي لا يشكّل قوّة إقتصادية تنافسها، و بالفعل تحاول اليوم إعتماد سياسة "فرّق تسد" مع الإتحاد عبر تشجيع بريطانيا على الخروج منه.
مواجهة "الجيش الأوروبي"
لا يمكن حصر الموقف الأمريكي بالإقتصاد، بل للعسكر أيضاً نصيبه من التهديد الأمريكي، فقد حاولت واشنطن الإلتفاف على أي مشروع لتشكيل جيش أوروبي موحّد، حتّى لو كان بهدف مواجهة التهديد الروسي حتی لا تتبلور سياسة خارجية و أمنية مشتركة، تساعد أوروبا في تحمل المسؤولية عما يحدث في العالم، و بالتالي تقف أمام الطموحات الأمريكية.
و لعلّ من أسباب الرفض الأمريكية لأي خطوة مماثلة هو خشية واشنطن أن يشكّل هذا الجيش منافساً قويّاً لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، فبهذا الجيش يمكن لأوروبا أن تخلص من الوصاية الأمريكية التي فرضتها واشنطن على أوروبا تحت عباءة الناتو.
الميزانية العسكرية
الإجراءات الامريكية العسكرية الجدیدة تجاه أوروبا، تمثّل بخطط جديدة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تهدف لرفع تمويل العمليات العسكرية في أوروبا، معلّلة الأمر بمواجهة التحديات الروسيّة و ضمانة حماية شركاء واشنطن الأوروبيين.
القرار الجديد يأتي بعد فترة من قرار سابق بتقليص الميزانية العسكرية في أوروبا عبر إغلاق العديد من القواعد العسكرية في بريطانيا و ألمانيا و بلجيكا و هولندا و إيطاليا و البرتغال، مقابل قرار سابق للبنتاغون بنقل سربين لمقاتلاته F-35 الجديدة إلى قاعدة ليكنهيث التابعة لسلاح الجو الملكي في بريطانيا، لتكون القاعدة الجوية البريطانية بذلك، أول موطن قدم للمقاتلة الأمريكية المتطورة في أوروبا . إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، ولاسيّما في ظل التحديات التي تتحدّث عنها واشنطن في منطقة الشرق الأوسط لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، و في شرق آسيا لمواجهة صعود "العملاق الصيني"، هو هدفها من زيادة ميزانية العمليات العسكرية في أوروبا رغم تواجد أكثر من 67 ألف جندي أمريكي حاليا أنحاء أوروبا .
عند الدخول في الأهداف و الرسائل الأمريكية من خطوة رفع ميزانية العمليات العسكرية في أنحاء أوروبا، تجدر الإشارة إلى الأمور التالية:
أولاً: إن أساس التواجد العسكري الأمريكي في "القارّة العجوز" هو نوع من الإحتقار للمجتمعات الأوروبية، وزيادة الميزانية حالياً تأتي في هذا السياق. إن رفض واشنطن لتشكيل جيش أوروبي، يرتبط بشكل وثيق مع القرار الجديد، و كذلك التواجد الأمريكي الكبير على الأراضي الأوروبية.
ثانياً: حاولت واشنطن الإستفادة من التدخل الروسي في سوريا الذي يهدف لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، لذلك إستخدمت التدخل الروسي "كشماعة" جديدة لتهديد أوروبا، لا بل عمدت للقول في أكثر من موقع أن "إنتفاضة بوتين" تشكّل تهديداً عسكريا لأوروبا، إلا أنه في الواقع، ما هذه الأحاديث إلا ذرائع لرفع مستوى السيطرة العسكرية الأمريكية على أوروبا، و ما قرار البنتاغون إلا فصلاً جديداً في فصول المؤامرة.
ثالثاً: لايمكن التغافل عن أي صلة مرتقبة بين قرار البنتاغون و ميزانية الدفاع التي وقّعها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، و التي تحتوي على سبع توصيات لحماية واشنطن لمنظمة خلق الإرهابية التي تتركز حالياً في أوروبا. لعل واشنطن تريد من هذه المنظمة التي تحتفظ في سجلّها بتاريخ حافل من الأعمال الإرهابية سواء في ايران أو العراق، أن تؤدي دوراً في تفاصيل السياسة الخارجية الأمريكية.
إن رفع ميزانية العمليات العسكرية الأمريكية في أوروبا، يأتي في ظل التحديات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، و كذلك الإستراتيجية الأمريكية تجاه شرق آسيا المسماة "الإرتكاز الآسيوي"، مما يعني أن لهذه الخطوة أهمية كبيرة في سياسة أمريكا الخارجية، أهمية قد نرى تفاصيلها في مستقبل أوروبا القريب، سواءً لناحية هجمات تنظيم داعش الإرهابي، أو التصويت البريطاني المرتقب على الإتحاد الأوروبي.